مساجد.. ومعارك (2-5)

مسجد البابري.. فتنة مؤجّلة تؤرّق الحـكومات الهندية

عدد من المتعصبين الهندوس يعتلون مسجد البابري قبل هدمه. أرشيفية ـ أ.ف.ب

بسبب تصاعد موجات اليمين المتطرف في العالم، تحول بناء ووجود المساجد والمآذن في مواقع مختلفة إلى مجال لمعارك واسعة بين جماعات مسلمة ومتعاطفين معها من قوى ديمقراطية ومستنيرة من جهة، وجماعات متعصبة من جهة أخرى. وعلى عكس ما استهدف خصوم الحرية، تمكن المعسكر الأول ليس فقط من الانتصار لحقه في الاعتقاد والعبادة، بل وقرن ذلك بتقديم صورة مشرقة للإسلام تنتصر له ضد محاولات تقديمه بصورة سلبية أيضاً.

فقبل 18 عاماً أقدم المتعصبون الهندوس على هدم مسجد البابري في الهند، وحولوا قضية المسجد الى «قضية شعبية عامة للهندوس»، وبدأوا ينظرون إليه على أنه علامة للغزو الاسلامي للهند، وقد سبق هدمه تصعيد في تطرف الهندوس وعدوانيتهم تجاه المسلمين في حملة هندوسية دعائية ضخمة رددت مزاعم أن كل مساجد المسلمين العتيقة قد بنيت على أنقاض معابد الهندوس، وهي الحملة التي بررت هدم المسجد البابري وما أعقبه من صدامات دامية أودت بحياة 2000 مسلم على الاقل.

وفي 6 ديسمبر عام 1992 أقدم أكثر من 15 الفاً من المتعصبين الهندوس من انصار حزب بهاراتيا جاناتا على هدم المسجد على مرأى ومسمع من الحكومة الهندية والعالم فقد تحولت عملية الهدم الى مصادمات عنيفة قتل واصيب فيها العشرات من المسلمين الذين يزدادون تمسكا بإعادة بنائه والوقوف في وجه المخططات الهندوسية التي تسعى اليوم لإقامة معبد على أنقاضه.

واستغل نحو 3000 كاهن ومتطرف هندوسي من بلدة أيوديا وصول الحزب اليميني المذكور الى السلطة عام 1998 للاجتماع مع رئيس الوزراء في ذلك الوقت إيتال بيهاري فاجبايي للتباحث في أمر بناء المعبد من دون تأخير وتصعيد الحملة لشحن مشاعر الهندوس ضد المسلمين.

وأكد رئيس المجلس الهندوسي العالمي، أشوك سينجال، الذي كان يقود موكب الكهنة أن الهدف من الاجتماع تذكير رئيس الوزراء بضرورة تسليمهم أرض المسجد، للبدء في تنفيذ مشروع بناء المعبد.

ويتفق اغلبية المحللين على أن هدم المسجد أثار جدلاً لم يثره أي مسجد آخر في العالم.

ويقع مسجد البابري على هضبة في مدينة أيوديا في الهند، والذي اقامه مؤسس الإمبراطورية المغولية ظهير الدين بابر. وتقول مصادر هندية إن الهندوس يؤمنون بأن المعبد الذي ولد فيه إلههم راما كان موجودا على تلك الهضبة وان المسجد بني على أنقاضه، وهو الأمر الذي لم يستطع علماء التاريخ الهنود إثباته بل إن الدراسات الهندية الأخيرة أثبتت أن المسجد بني على أنقاض مسجد آخر.

عمل إسلامي

ومنذ تدمير المسجد لم تتوقف لجنة العمل الإسلامية في مساعيها لإعادة بنائه، فقد أعلنت بعض الجماعات الإسلامية هناك أنها ستلجأ للقوة لوقف بناء المعبد الهندوسي. كما أجمع علماء الأمة الإسلامية على أن المسجد إذا اقيم في مكان ما يبقى مسجداً إلى يوم القيامة، لا يجوز بيعه ولا إهداء أرضه إلى أحد، ولا يجوز لأي شخص أو حكومة تغيير حيثيتها، فالمسجد في الواقع هو تلك القطعة الأرضية التي وقفت كمسجد، وليس هو اسما لجدرانه وأساسات بنائه فقط، فإذا انهدمت عمارة المسجد أو هدمت ظلماً أو بقي مهجوراً إلى مدة طويلة لا يصلى فيه، فيبقى مسجداً، ويجب على المسلمين شرعاً عمارة ذلك المسجد، ولذلك لا يجوز أبداً تحويل أرض المسجد الى معبد، فهذا ليس مخالفة للعقيدة والدين فحسب بل للعقل أيضاً. وقرر مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة بالإجماع بأنه لا يجوز شرعاً أي صلح على مسجد البابري، أو على مسجد آخر لتحويله الى معبد.

واعتبر العلماء والمثقفون المسلمون في العالم ان ما تعرض له مسجد البابري «جريمة عظمى» بكل المقاييس إذ هو إساءة للإسلام والمسلمين ومقدساتهم، وطالبوا الحكومة الهندية بمعاقبة مرتكبي هذه الجريمة وإعادة بناء المسجد، وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم من جانب الهندوس وغيرهم.

الصراع مستمر

http://media.emaratalyoum.com/inline-images/290235.jpg

بعد هدم المسجد اشتد الصراع على أرض المسجد ولم ينته بعد، إلا أن ستاراً من الصمت قد أسدل عليه من الجانبين معاً خلال السنوات الماضية، فالجانب الرسمي الهندي يحرص على التزام الصمت في قضايا الاعتداء على المسلمين، ما يزيد من ضراوة العمل الهندوسي، بينما يعول فريق في الجانب الإسلامي على طي ملف القضية برمتها، والتزام الصمت بشأنها، بدعوى أن الاستمرار لن يؤدي إلا إلى مزيد من المشكلات للمسلمين في الهند. لكن هذا الصمت قطعه إعلان المجلس الهندوسي العالمي في مايو 2001 بأنه سيبدأ العام التالي 2002 بناء معبد بالقرب من موقع مسجد البابري، واعتبر هذا الإعلان تحدياً للحكومة الهندية التي ابدت معارضة على لسان وزير الداخلية لال كيرشنا أدفاني الذي قال إنه لن يسمح ببناء ذلك المعبد.

وفي مطلع عام 2001 توصل المتعصبون الهندوس إلى حيلة جديدة للاستيلاء على أرض المسجد البابري تتمثل في محاولة الحصول على ورقة من بعض المسلمين تخولهم بناء معبدهم على أرض المسجد التي يقوم عليها بالفعل معبد مؤقت، ولكن المتعصبين يريدون إنشاء معبد ضخم هناك، وقد بنوا نموذجاً له، والشخص الذي اهتدى إليه المتعصبون لعقد الصفقة المشبوهة معه هو (محمد هاشم أنصاري) من سكان بلدة أيودهيا، ولا يتمتع بأية صفة رسمية او معنوية وهو الوحيد الباقي على قيد الحياة ممن أقاموا الدعوى الأصلية في المحاكم عندما استولى المتعصبون على المسجد في ديسمبر .1994

من المؤكد أن استمرار هذه الاضطرابات في الهند، وما يثيره المتطرفون الهندوس ضد المسلمين ليس في مصلحة الحكومة الهندية أو في مصلحة الاستقرار الذي تسعى لتحقيقه بين طوائف المجتمع الهندي المختلفة خصوصاً أن مسلمي الهند هم أكبر أقلية إسلامية في العالم.

وطبقاً لإحصاء الحكومة الهندية عام 1991 فإن عدد المسلمين يبلغ 96 مليون و65 ألف نسمة، غير أن تقديرات مسلمي الهند لأنفسهم تراوح بين 150 و200 مليون نسمة، أكثر من نصفهم يعيش في ثلاث ولايات هي أوتربرادش، وبهار، وولاية البنجال الغربية.

تاريخ من الاعتداءات

وتعود بداية الاعتداءات على المسجد البابري إلى ما يزيد على نصف قرن، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابة يراوح عددها بين 50 و60 هندوسياً عليه ووضعوا فيه أصناماً «لإلههم المقدس راما»، وادعوا أن الأصنام ظهرت بنفسها في مكان ولادته، ما اضطر الشرطة إلى وضع المسجد تحت الحراسة مغلقاً كونه محل نزاع.

وفي الثالث من نوفمبر 1984 سمح رئيس وزراء الهند االسابق راجيف غاندي للهندوس بوضع حجر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتبع هذا حكم صادر بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي ر.ك. باندي، الذي أصبح عضواً في حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي المسؤول عن هدم مسجد بابري، اذ سمح فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم فيه، وحذر السلطات المحلية من التدخل في هذا الشأن.

وفي بداية الثمانينات رفع الهندوسي المتطرف، محنت راغوبير قضية أمام المحكمة بشأن كون مسجد البابري قد بُني فوق معبد راما الأسطوري، الا أن هذه المزاعم تم دحضها بحكم القضاء في ابريل 1985 لفقدان أي دليل تاريخي أو قانوني.

تخاذل رسمي

اتسم موقف الحكومة الهندية بقدر كبير من الضعف والتخاذل والتناقض وشجعت التحركات الصادرة عنها المتطرفين الهندوس على المضي قدما في ترتيبات هدم مسجد البابري، إذ كان آلاف الهندوس يرددون أهازيج الانتصار، معلنين العزم على البدء في بناء معبد هندوسي مكان المسجد ومرددين ايضا أنه قد آن الأوان لخروج المسلمين من الهند في الوقت الذي التزم فيه المسلمون في المدينة منازلهم، أو غادروها بحثاً عن الأمن وفرارا من بطش الهندوس ووحشيتهم، فقد اقتحمت الحشود الهندوسية الغوغائية المسجد بقوة السلاح وفتكت بالمسلمين الذين حاولوا الدفاع عنه، وسط تواطؤ صريح من أجهزة الأمن الهندية وتحت أنظار الدنيا بأسرها.

وقد تقاعست الحكومات الهندية المتعاقبة عن تنفيذ وعودها للمسلمين بإعادة بناء المسجد، ولم تنفذ أياً منها. وكان التواطؤ الرسمي من قبل الحكومة والقضاء مع المتطرفين الهندوس مكشوفاً ولا يخفى على أحد، فقد كشف رئيس الوزراء السابق ايتال بيهاري فاجبايي عن موقفه من قضية المسجد البابري عندما قال في أواخر عام ،2000 إن بناء المعبد الهندوسي مكان المسجد البابري يأتي «تعبيراً عن الأماني القومية»، وإنه «برنامج لم ينته بعد». وبعد أن تعرض للهجوم الشديد بسبب هذا التصريح الذي يقف بجوار المتطرفين الهندوس عاد ليقول: إن قضية المعبد ستبت فيها المحاكم أو بالاتفاق بين المسلمين والهندوس، وأي شخص يتجرأ على تغيير الوضع القائم سيعامل وفق القانون.

كما شهد مسار القضية المرفوعة ضد الذين هدموا المسجد مفاجأة كبيرة حين ألغت المحكمة العليا في مدينة الله آباد قرار المحكمة الخاصة التي شكلتها حكومة ولاية اوتربراديش والمكلفة بالنظر في هذه القضية مستندة في ذلك الى نقطة فنية، هي أن القرار الحكومي بإنشاء المحكمة الخاصة «فاسد قانونياً»، لأنه أهمل الحصول على موافقة المحكمة العليا مسبقا، وبالتالي فإن كل الإجراءات التالية غير سليمة قانونياً. ومن بين المتهمين في قضية هدم المسجد وزير الداخلية السابق لال كيشان أدفاني ووزير تنمية القوى البشرية مورلي مانو هار جوشي ووزيرة الشباب أوما بهارتي وهم من اعضاء حكومة حزب بهاراتيا جاناتا برئاسة فاجبايي، غير أن الممارسات القانونية والقضائية الجارية منذ سنوات تشير بوضوح الى وجود مخططات لعرقلة القضايا وتأجيلها وتضليل المحاكم ولجان التحقيق حول أدوار المتهمين في هدم المسجد.

ولم تكن أحداث مسجد البابري هي الأولى من نوعها بل كانت هناك عشرات الحوادث والمصادمات التي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين الأبرياء، فإذا ما تجاوزنا عن أحداث انفصال الهند وباكستان التي أودت بحياة مليون شخص، فضلاً عن 17 مليون آخرين أجبروا على الهجرة، فإن الفترة بين عامي 1954و1963 شهدت وقوع 62 حادث مواجهة بين المسلمين والهندوس أدت إلى سقوط 39 قتيلاً واكثر من 500 جريح.

وفي عام 1964 كانت الحصيلة 1070 حادثاً، و2000 قتيل، وأكثر من 2000 جريح. وبين عامي 1985 و1991 كانت الحصيلة 620 حادثاً، و660 قتيلاً، و6950 جريحاً.

 

تويتر