أميركا مطالبة بتمويل إخلاء المستوطنات الإســـرائيلية لإنقاذ السلام
كان طبيعياً وأمراً متوقعاً أن تترنح مفاوضات السلام المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتنهار بسبب إصرار حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية على إمكان استمرار تلك المفاوضات بالتوازي مع مواصلة الأنشطة الاستيطانية في الاراضي الفلسطينية.
ويعكس تشبث إسرائيل بالمستوطنات بوضوح شديد نواياها البقاء في الأراضي الفلسطينية المحتلة أو في أجزاء منها، على الرغم من أن الهدف الاساسي من عملية التفاوض هو الخروج الاسرائيلي منها لتأسيس الدولة الفلسطينية، ما يلقي ظلالاً قوية من الشك في صدقية المفاوضات وجديتها.
وإذا كانت الولايات المتحدة حريصة حقاً على المساعدة في التوصل الى اتفاق سلام نهائي وتاريخي بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، فإنه يتعين على إدارة الرئيس باراك اوباما أن تضطلع بدور مهم في تشجيع المستوطنين على الرحيل عن مناطق الضفة الغربية، لأن مشكلة المستوطنات ترافق المفاوضات عبر كل مراحلها وتهدد بنسفها في كل مرحلة.
وأعتقد أن الولايات المتحدة تملك أكثر من وسيلة للضغط على إسرائيل لإقناعها بمغادرة المستوطنين، منها المساعدات المالية الضخمة التي تقدمها لها.
وبعد انتهاء مهلة الشهور الـ10 لتجميد الاستيطان في 26 سبتمبر الماضي، مازالت حكومة نتنياهو تناور حينا وترفض حينا آخر الاستجابة للدعوات المتكررة من أوباما وكبار مساعديه لتمديد هذا التجميد لفترة جديدة، إذ يرفض نتنياهو الخروج عن نهج سابقيه الرافض بقوة وقفاً دائماً للانشطة الاستيطانية.
حوافز
وطبقاً لبعض التقارير فإن أوباما قدم رزمة من الحوافز والاغراءات في هذا الاتجاه منها تحديث الاسلحة والمعدات العسكرية للجيش الاسرائيلي وتطويرها، وزيادة المساعدات السنوية الاميركية لاسرائيل البالغة حالياً ثلاثة مليارات دولار، وغير ذلك، مقابل موافقة حكومة نتنياهو على تمديد جديد لوقف الاستيطان لمدة 60 يوماً.
وكمستشارة سابقة للوفد الفلسطيني المفاوض فقد شهدت انهيار المفاوضات أكثر من مرة بسبب هذه القضية التي تهدد بانهيار عملية السلام برمتها.
وقررت جامعة الدول العربية الاسبوع الماضي مساندة حق الفلسطينيين في الانسحاب من المفاوضات حتى مع التمديد المؤقت لتجميد البناء الاستيطاني، ما يعني ازدياد الحاجة الى حل مقبول وبعيد المدى تبدو الولايات المتحدة مؤهلة أكثر من غيرها لتقديمه، وهو تقديم الحوافز لإغراء المستوطنين الاسرائيليين بمغادرة المستوطنات في الضفة الغربية، ومن غير هذا الحل فإن جهود الموفد الاميركي الى الشرق الاوسط جورج ميتشل لن تفلح في إنقاذ مفاوضات السلام من الانهيار مهما تعددت جولاته المكوكية.
وعلى الرغم من إلحاح أوباما وفريقه فإن المسؤولين الاسرائيليين يتنافسون في المراوغة والدفاع عن مواصلة البناء الاستيطاني، منهم السفير الاسرائيلي في واشنطن مايكل أورين الذي يجادل بالقول، إن «استئناف البناء في المستوطنات سيكون محدوداً يقتصر على النطاق الضروري، ونابعاً من إحساس عال بروح المسؤولية».
وبات واضحاً أن إنقاذ مفاوضات السلام يحتاج الى ما هو أكثر من تمديد مؤقت تظهر بعد انتهائه المشكلات الخطيرة التي تهدد تلك المفاوضات وما يتم إنجازه فيها، وما يحتاج إليه استمرار العملية السلمية ونجاحها هو تشجيع حقيقي وجدي من الادارة الاميركية لإسرائيل على إنهاء احتلالها للضفة الغربية وإخراج مستوطنيها منها.
وبين عامي 1993 و2000 وهي الاعوام الذهبية لعملية السلام التي بلغت ذروتها بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية من 250 ألفا الى 280 ألفا عام ،2000 ولكن عددهم اليوم يناهز نصف مليون. ومن شأن استمرار الزيادة في عددهم في ظل التجميد المؤقت للبناء الاستيطاني أن يثير شكوكا كبيرة وخطيرة حول جدوى العملية السلمية وهدفها النهائي، وهو استقلال الفلسطينيين في دولتهم الخاصة والمترابطة جغرافياً والقابلة للحياة.
واستناداً الى أرقام مكتب الاحصاء الاسرائيلي فإنه رغم التجميد فقد زاد عدد المستوطنين خلال النصف الاول من العام الجاري على 8000 مستوطن، وهو ما يساوي الزيادة في الفترة نفسها من العام الماضي، ويزيد ثلاث مرات على الزيادة داخل اسرائيل. وهذه الزيادة لا تعود أو تستند الى أسس أو دوافع ايديولوجية وإنما (كما تشير الدراسات الاسرائيلية) الى رغبة معظم المستوطنين الذين يقبلون الاقامة والعيش في مستوطنات في الحصول علي امتيازات وحوافز مالية واقتصادية مثل المساعدات والاعفاءات الضريبية وخدمات إضافية في التعليم والصحة، وغيرها من التسهيلات.
تواطؤ أميركي
غير أن واقع الحال يقول إن الولايات المتحدة متواطئة مع سياسة الاستيطان الاسرائيلية، وإن هناك جهات اميركية عدة تقدم التمويل للبناء الاستيطاني والدعم للمستوطنين لتمكينهم من الحياة في المستوطنات، إذ يكشف تحقيق حديث لصحيفة «نيويورك تايمز» أن مستوطنات كثيرة في الضفة الغربية تتلقى التمويل من مؤسسات خيرية مثل الصندوق اليهودي «وهيبرون فاند»، وتتسلم أموالاً معفاة من الضرائب لتنفيذ مشروعات من غير أن تفعل إدارة أوباما أي شيء لوقف هذا الدعم، رغم إدراكها العميق أن مثل هذه الأعمال تقوض السياسة الخارجية الأميركية وتضعفها للغاية.
وإذا كانت لدى تلك الادارة ومعها «الكونغرس» الرغبة الحقيقية الجادة في لعب دور الوسيط النزيه والجدي في عملية السلام، فإنه يمكنهما العمل على وقف أشكال الدعم للمستوطنات وتمويلها، وشرح الاسباب الوجيهة لتشجيع المستوطنين على إخلاء المستوطنات ومغادرة الضفة الغربية بشكل سلمي، وتوضيح تفاصيل ما ستقدمه لهم من حوافز ومغريات، ويجب أن تكون هذه المساعدات والحوافز الاميركية مشروطة بنجاح الحكومة الاسرائيلية في تنفيذ خطة الاجلاء السلمي للمستوطنين، كما أن فرض القيود والضرائب على المساعدات التي تقدمها الصناديق والجهات الخيرية الاميركية للمستوطنات يسهم في سد الثغرات التي تعرقل التنفيذ الناجح للخطة. وقد يجادل منتقدون بأن هذه الخطة تعد مكافأة لاسرائيل على انتهاكها القانون الدولي على مدى عقود من احتلالها الاراضي الفلسطينية، وهذا صحيح، ولكن يجب على هؤلاء ألا ينسوا أن غطاء الدعم الاميركي لاسرائيل استمر أكثر من ستة عقود ليتجاوز 140 مليار دولار، ولن يتوقف هذا الدعم بين ليلة وضحاها، ولكن قد يتم توظيفه في أغراض أفضل وأهداف أكثر إنتاجية وفائدة.
وختاماً فإن الوقت الراهن هو المحك والاختبار لإسرائيل وللولايات المتحدة لكي تظهر التزامها الحقيقي بالسلام الذي يجب ان يتوج بنيل الفلسطينيين حريتهم في دولتهم الخاصة بهم، فإذا ما قدمت إدارة اوباما تلك الحوافز وأبدت اسرائيل التعاون المطلوب فإن عقبة كبيرة وكأداء ستزاح من طريق عملية السلام، وستتخلى العقلية الاسرائيلية عن فكرة مسلّم بها منذ وقت طويل، هي أن أميركا تدعم سياسات اسرائيل دوماً ومن غير شروط ودونما مناقشة، وتكون واشنطن قد أظهرت بذلك للفلسطينيين تصميمها على إيجاد حل سلمي، وان عدم تعاون اسرائيل والتزامها يعني أن من الافضل إنفاق ثلاثة مليارات دولار (هي المساعدات السنوية الاميركية لإسرائيل) على الشعب الاميركي داخل أراضيه بدلاً من تقديمها لدولة تتجاهل السياسة الخارجية الاميركية وأهدافها، وما يرتبط بها من مصالح حيوية للولايات المتحدة حول العالم.