التلوّث والحصار يفاقمان معاناة أهالي غزة
روائح كريهة، أعمدة دخان، غازات سامة، هذه هي صورة الحياة القاتمة التي اعتادها سكان حي تل السلطان غرب مدينة رفح جنوب قطاع غزة منذ أربع سنوات، إذ يقابل هذا الحي مكب للنفايات تجمع من كل أحياء المدينة، ويقابل منازل السكان مباشرة ولا يبعد عنها سوى 300 متر كما يجاوره مركز تابع لوزارة الشؤون الاجتماعية.
الطفل محمد أبوالسعيد يخفي وراء براءته الطفولية آلاماً كبيرة تحرمه من اللعب كغيره من الأطفال، إذ إنه مصاب بضمور في المخ بحسب تقارير طبية لمستشفى غزة الأوروبي رغم أنه ولد طبيعياً دون أية مشكلات صحية تذكر، لاسيما أنه لا يوجد أمراض وراثية في عائلته. محمد البالغ من العمر عاماً وثلاثة شهور، لا يقدر على اللعب والحركة لأنه يعاني ارتخاءً في الأعصاب نتيجة المرض الذي يصيبه، إضافة إلى أن استنشاق الغازات والملوثات الهوائية تؤثر في حالته الصحية.
حلول.. ولكن يقول رئيس جمعية أصدقاء البيئة في رفح سمير عفيفي «هناك مشكلة كبيرة تواجه بلدية رفح، فعندما لا يكون هناك دعم من المانحين تصبح غير قادرة على ترحيل النفايات». وفي ما يتعلق بالحلول الممكنة لتجاوز هذه الأزمة التي أضرت بصحة سكان حي السلطان، وعكرت صفو حياتهم على مدار أربع سنوات، يقول عفيفي «بدأنا نشاطات في رفح مع مؤسسة «جايكا» اليابانية لعمل حديقة تفصل المكب عن منازل السكان». ويضيف «كما دعمت الحكومة اليابانية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لعمل مصنع لفرز 50 طناً من النفايات بشكل كامل، من جميع النفايات في رفح وليس فقط في تل السلطان، إذ يتم استخدام المواد العضوية سماداً عضوياً، والبلاستيك والحديد يتم استخدامه في الصناعات، وهذا المشروع سيتم تنفيذه خلال عام». فيما يرى أن تقوم بلدية رفح بحل ولو بشكل مؤقت للأزمة يتمثل في القيام بترحيل النفايات مباشرة إلى مكب صوفا.
|
ضحايا التلوث
حالة محمد وإن لم يجد الأطباء المعالجون السبب الرئيس لها فإن أخصائي الأعصاب في مستشفى غزة الأوروبي الطبيب أحمد الحلاق أكد أن الغازات الناجمة عن حرق النفايات الصلبة، إضافة إلى النفايات النووية من أسباب هذا المرض. ويقول الحلاق لـ«الإمارات اليوم»، «ضمور المخ له مسببات كثيرة، منها نقص الأوكسجين، والأجواء والأغذية الملوثة». ويتفق رئيس جمعية أصدقاء البيئة سمير عفيفة مع الطبيب الحلاق، بأن نقص الأوكسجين وغازات حرق النفايات تسبب مثل هذه الأمراض.
ويقول عفيفي «من بين الغازات الناتجة عن حرق النفايات أكاسيد الكربون، ويعد أول أكسيد الكربون أهم عامل يؤدي إلى نقص الأوكسجين في جسم الإنسان، إذ يبدأ استنشاقه بكميات قليلة، ومع تصاعده وتعرض الشخص له بصورة كبيرة يقلل نقل الأوكسجين إلى الجسم، ويسبب الأمراض، وتبدأ الأعراض بصداع أو غثيان في المرحلة الأولى». وكانت أعراض المرض بدأت تظهر على الطفل محمد، بحسب والدته، في 19 أبريل 2010 وهو في الشهر الثامن، إذ أصيب بتشنج بصورة مفاجئة في ساعات متأخرة من الليل، وتم نقله إلى المستشفى، وتلقى العلاج المناسب ولكن التشنج لم يفارقه وأصبح يعيش على الأدوية والمسكنات.
وتقول الأم الحزينة على مرض طفلها بصوت مختنق «لم يكن هناك سبب واضح لهذا المرض، وبعد 20 يوماً من بداية إصابة محمد بالتشنج، زادت حالته سواء، ما أدى إلى إصابته بارتخاء في الأعصاب، وقد اتضح بعد ذلك ومن خلال الصورة المقطعية أنه مصاب بضمور في المخ، ومع مرور الوقت ازدادت حالته سوءا ولم يعد يبصر أو يسمع».
وتوضح والدة محمد أن منزلهم الموجود على الشارع الرئيس لحي تل السلطان يطل مباشرة على مكب النفايات ومن خلال نوافذه المطلة على المكب يقتحم الدخان المنزل ويؤذي جميع السكان كأن حريقاً بداخله.
محمد ليس هو الحالة الوحيدة في منزلهم المكون من ثلاثة طوابق التي أصيبت بأمراض نتيجة استنشاق الهواء الملوث والغازات السامة، فآدم البالغ من العمر ست سنوات، ابن عم الطفل محمد، مصاب بربو دائم في صدره منذ ثلاثة أعوام في بدايات حرق النفايات في المكب، ويحتاج بصورة دائمة إلى بخاخة الأوكسجين، فيما كانت التشنجات بداية أعراض المرض.
ولم تقتصر الإصابات على الأطفال في عائلة أبو السعيد، فآلاء البالغة من العمر 16 عاماً وهي ابنة عم محمد وآدم، تعاني خفقاناً دائماً في صدرها منذ عامين.
والتقينا بآلاء فور عودتها من مدرستها، وكانت في حالة صحية سيئة، بسبب اشتمامها رائحة القمامة المنتشرة في الحي الذي تقطن به، إذ كانت سيارات البلدية تقوم بنقل القمامة إلى المكب المجاور لمنزلها. وتقول لـ«الإمارات اليوم»، عندما يتم حدق النفايات أصاب بضيق تنفس واختناق شديد، وهذا ما يجعلني بحاجة دائمة إلى بخاخة الأوكسجين التي لا تفارقني، وأصبحت لدي حساسية دائما في صدري من أي دخان أو غبار».
وتعاني دينا منصور، (سبعة أعوام) المرض نفسه الذي يصيب آلاء، فمنازل هذه العائلات هي الأكثر تعرضاً للدخان المنبعث من حرق النفايات بسبب اقترابها من الشارع الرئيس.
«الإمارات اليوم» توجهت إلى بلدية رفح التي تعتبر في نظر سكان تل السلطان المسؤول المباشر عن الأزمة التي يعانون منها، والتقت مدير دائرة الصحة والبيئة في البلدية عبدالحميد ضهير، الذي قال «إن المكب في تل السلطان عبارة عن محطة ترحيل مؤقتة، وهو أقرب إلى مقر البلدية من مكب صوفا الذي يبعد عنها 11 كيلومتراً، أي أن حركة ذهاب سيارات النقل الخاص في البلدية وإيابها تكلف كثيراً من الوقود، لذلك تقوم السيارات الصغيرة بنقل القمامة من جميع مناطق رفح إلى مكب تل السلطان الذي يبعد كيلومترين فقط، وبعد تجميعها يتم ترحيلها إلى مكب التجميع الرئيس في صوفا».
ولكنه سرعان ما ناقض نفسه عندما أجاب عن سؤال حول عدد المرات التي أزيلت فيها النفايات من مكب تل السلطان خلال السنوات الأربع التي عمل خلالها المجلس الجديد للبلدية، إذ يقول «في السنوات الأربع الماضية تم ترحيل النفايات من مكب تل السلطان إلى مكب صوفا ثلاث مرات فقط».
شماعة الحصار مكب النفايات هذا يوجد في حي تل السلطان منذ سنوات عدة، ولكنه كان محطة ترحيل وليس للتجميع والحرق، وعلى مدار أربع سنوات أصبح مكاناً للتجميع. وإن كان في عامي 2007 و2008 لم يتم نقل النفايات إلى مكب التجميع الرئيس في منطقة صوفا شرق رفح، وهي منطقة حدودية وخالية من السكان، بسبب الحصار ونفاد الوقود اللازم لتشغيل شاحنات وسيارات النقل، فإن الوقود توافر بعد ذلك بصورة كبيرة بعد جلبه من الجانب المصري عبر الأنفاق. ورغم ذلك لم يتم ترحيل النفايات، وأصبح المكان مكب تجميع، وخلال هذه الفترة كانت تحرق النفايات في ساعات الليل بشكل شبه يومي، وكان السكان يتقدمون بشكاوى بشكل مستمر، ولكن دون جدوى، ويتم إرجاع السبب إلى الحصار. وعندما اشتدت الأزمة لدى السكان بدأت بلدية رفح تتدارك الخطر، إذ توقف الحرق، وقامت البلدية خلال ثلاثة أيام من بداية أكتوبر 2010 بنقل كميات بسيطة مع مكب تل السلطان إلى محطة التجميع في صوفا. ورغم توقف الحرق، فإن السكان يخشون عودته، فيما تبقى رائحة القمامة خطراً يهدد صحتهم، ففي الليل تشتد هذه الرائحة بشكل كبير. |
ويضيف «في عام 2009 تم ترحيل 15 ألف متر مكعب من النفايات، أما في عام 2010 فقد تم البدء بإزالتها بعد عيد الفطر إذ خصصنا 20 يوما لترحيل ما يقارب 20 ألف متر مكعب من النفايات، ولكن السيارات عملت فقط لمدة ثلاثة أيام، وقد رحلت كميات كبيرة من القمامة».
ويشير ضهير إلى أن بلدية رفح تنقل 50 طناً يومياً من النفايات من مناطق عدة في رفح إلى مكب حي تل السلطان الذي يقطنه 35 ألف مواطن، وهذه الكميات تتراكم يومياً مع عدم الترحيل بصورة منتظمة إلى مكب صوفا.
ويوضح أن ترحيل النفايات لا تقوم بها بلدية رفح بشكل مباشر، وإنما تقوم بها شركات مقاولة من جهات مانحة أو من صندوق البلديات الممولة للمشروعات، ولا يتم إتمام أي مناقصة إلا عندما تتوافر الميزانية الخاصة بها.