المتظاهرون تمكنوا في أقل من أسبوعين من تجريد رموز النظام من سلطتهم المعنوية. إي.بي.إيه

مصر تبدأ معركة البناء بعد رحيــــل مبارك

خلال الأسبوعين الماضيين قضيت وقتي بين التلفزيون والانترنت، متعطشاً إلى اللحظة التي جاءت أخيرا، عندما استسلم الرئيس المصري لإرادة شعبه الشجاع في لحظة صنع فيها التاريخ، وانطلقت الاحتفالات. ولكن لابد من التساؤل ماذا بعد؟ في حقيقة الامر ان المجلس الاعلى للقوات المسلحة لا يوحي بالثقة. وهل يمكن أن يظهر لنا رجل قوي آخر من المؤسسة العسكرية؟ هل يمكن ان يقوم القادة الاوروبيون بتغليب فكرة الاستقرار على القيام بتغيير حقيقي في البلد؟

وزاد شعوري بالقلق متذكرا كلمات مراقب حاد البصيرة لنضالات مصر في الماضي، وهو العالم المسلم جمال الدين الافغاني «1838 ـ 1897»، عندما قال: «إن صرح الحكومة المستبدة يترنح الى حتفه. وعليك ان تكافح قدر استطاعتك لتقويض اساس هذا النظام المستبد، وليس التخلص من رجال هذا النظام بصورة فردية».

وكان الافغاني عاش حياة مهنية طويلة في الصحافة. وتنقل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وشاهد مدى قوة الانظمة المستبدة في العالم المسلم، على الرغم من انه تم اقتلاع بعض هؤلاء القادة المستبدين، ولكن ذلك لم يدهشه.

وأمضى الافغاني ثمانية اعوام في مصر في وقت حاسم هو ما بين (1871 ـ 1879) عندما كانت الحكومة تبدو مستقلة من الناحية الشكلية، ولكنها كانت تترنح في علاقة طويلة ومذلة مع العالم الغربي. وتعرضت للغزو من قبل نابليون عام ،1798 وأصبحت اول دولة غير اوروبية تحاول اللحاق بالقوة الاقتصادية والعسكرية للعالم الغربي. وقامت بانشاء جيش حديث، إضافة الى نظام بيروقراطي، وبدأت الزراعة على نطاق واسع لمحصول مهم يدر الكثير من المال هو القطن.

وأدى ذلك الى تجمع الثروة في اياد محددة، ولكن نظرا الى ان مصر ربطت مصيرها بمحصول واحد فقد اصبحت مدينة بمبالغ كبيرة للعالم الغربي في سبعينات القرن التاسع عشر، كما ان صناعتها الوليدة لم تحظ باي فرصة في الاقتصاد العالمي. وفي نهاية سبعينات القرن التاسع عشر وبداية الثمانينات انفجر السخط ضد النظام المستبد المدعوم من قبل الاجانب في انتفاضة اعتبرت الاولى من نوعها في اسيا وافريقيا. وكان البريطانيون قد احتلوا مصر في عام 1882 لحماية مصالحهم، واهمها قناة السويس.

وفي تركيا العثمانية لاحظ الافغاني تقدما مشابها للمصالح الغربية مدعوما بالبنادق. وشارك في الاحتجاجات في ايران وطنه الام ضد قيام الشاه في زمنه ببيع الموارد الوطنية لرجال الاعمال الاوروبيين. وأدرك الافغاني أن التهديد الذي يتعرض له الشرق من قبل اوروبا اكثر غدراً من مجرد احتلال الاراضي.

فعلى سبيل المثال فإن فرض التحديث الداخلي والشروط الخاصة «بالتجارة الحرة» على المجتمعات الاسيوية، جعل النخبة في هذه البلاد يطيعون الاوروبيين. وفي المقابل، فقد كان الحكام المحليون سعداء جدا باستخدام الاساليب الغربية لتحديث جيوشهم، وتأسيس أجهزة شرطة حديثة وشبكات تجسس وتعزيز سلطتهم.

وبناء عليه فان الافغاني يشرح في تسعينات القرن التاسع عشر كيف ان المسلمين انتقلوا من احتقارهم الانظمة المستبدة المدعومة من الغرب الى احتقار الغرب نفسه. وحتى السيادة الوطنية والديمقراطية الانتخابية لم تكن لتشفع لقوة الغرب المادية والفكرية الواسعة الدهاء. وانضم الفلاحون والطلبة والطبقة العاملة الى الانتفاضة ضد الحكم البريطاني عام 1906 وعام ،1919 وساعدت القومية العلمانية في تأجيج هذه الحركات المناوئة للامبريالية الغربية.

وأعلن البريطانيون مصر دولة مستقلة عام ،1922 ولكنهم كانوا قد جعلوا من العسير على حزب الوفد المنتخب ان يحكم الدولة، وعلق الزعيم الهندي جواهر لال نهرو من السجن البريطاني عام 1935 قائلا: «هذه الديمقراطية تلعب دورا واحدا هو تنفيذ مطالب القوى الامبريالية الحاكمة».

وشعر العرب ايضا بهذه الحقيقة البشعة عندما اصبحت الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة الاكثر قوة في الشرق الاوسط، حيث انها تضمن امن اسرائيل، وضمان جريان النفط وقائمة كبيرة من المصالح الغربية في المنطقة. وبقية هذه القصة التي عرفها الافغاني كما هي معروفة. وترأس جمال عبدالناصر فترة قصية من تاريخ مصر الحرة، ولكن اصلاحه الاجتماعي لم يفعل الكثير من اجل تحسين وضع مصر الاقتصادي في العالم. وقام من خلفه بتقوية اساسات طغيانهم، وعقدوا حلفا عسكريا مع الحكومات الغربية، وفتحوا الاقتصاد للمستثمرين الاجانب وشكلوا نخبة صغيرة ولكن قوية الى جانب الأغلبية التي تعيش في فقر مدقع. في محاولته لتوجيه اللعنة الى جميع الطغاة في عصره، قال الافغاني متأثرا: «أتمنى لو أزرع بذور افكاري في اذهان الناس»، ولكن قناة الجزيرة والانترنت انجزتا ما حلم الافغاني بالقيام به. وتزايدت التظاهرات وتضخمت من قبل الطبقات الاجتماعية الجديدة، سواء المستفيدين من النظام او ضحاياه، وحتى ابواق النظام الاعلامية كانت تجد اصواتها الداخلية تقول شيئاً مختلفاً عما تظهره. وبمساعدة موقع «يوتيوب» على الشبكة العالمية، وعلى الرغم من تعرض المتظاهرين للرش بخراطيم المياه، الا انهم تمكنوا من حشد طاقتهم المعنوية والروحية. ومما يبعث على الذهول، ان المتظاهرين في ميدان التحرير تمكنوا في اقل من اسبوعين من تجريد حاكم مصر وانصاره الاجانب من سلطتهم المعنوية وثقتهم الذهنية. وكانت الثورة الذهنية الضرورية قد تم انجازها، اذ ان تحول البنية السياسية والاقتصادية كان حدثاً اكثر استثنائية، ولكن انجازه لم يكن امراً سهلا، كما اوضح المثال التونسي، وكما هي التحذيرات الواردة في التاريخ المصري نفسه والتي تشير الى ان قواعد الزعيم المتسلط تكون عميقة وعريضة. وبعد ان رحل الحاكم، من الواضح تماما اننا يجب ان نواصل حذرنا حتى بعد ان توقفت وسائل الاعلام الغربية عن الاهتمام بهذا الحدث، وربما علينا ان نستعد ايضا ونحضر انفسنا لعقبات في معركة مصر الطويلة الامد من اجل تقرير المصير.

الأكثر مشاركة