هاربة من ليبيا: تحصّنا بالسفارة.. وتعشينا فاصولياء مطبوخة
كنت واحدة من الذين حالفهم الحظ في الخروج من طرابلس في وقت مبكر، إذ لايزال الأصدقاء والزملاء موجودين في السفارة (البريطانية) هناك، وأعلم أن هناك وافدين كثيرين تقطعت بهم السبل في المناطق النائية من ليبيا.
ما فوجئنا به هو السرعة التي انقلبت بها طرابلس من مدينة وادعة هادئة على ساحل البحر إلى ساحة قتال الأسبوع الماضي، كان الاحد من اجمل الأيام وأهدأها عندما ذهبت لأتسوق، شعرت بأن هناك شيئاً تغير في مزاج المارة، وفي وقت متأخر من اليوم نفسه أغلقت المتاجر وجف معين محطات الوقود، واختفت بطاقات الهاتف من السوق، ثم فجأة انقطعت جميع خطوط الهواتف.
اتخذت الأحداث منحنى سريعاً، في ذلك المساء، تسلقنا سطوح منازلنا قرب بؤرة توتر، ومن على البعد كنا نسمع ما يشبه هتافات شبيهة بتلك التي يطلقها مشجعو كرة القدم وهم يقذفون بالكتل المشعلة باللهب ويهتفون، وفي كل مرة يقترب منا الصوت رويداً رويداً، وعند الساعة الثانية من صبيحة يوم الاثنين تحولت أصوات الفرقعة الى إطلاق نار من البنادق الآلية، وتحولت الهتافات الى صراخ، صديق في الجانب الآخر من المدينة كانت يسترق السمع من خلال نافذته الى أصوات مدفعية ثقيلة وهاون تأتي من مسافة خمسة أميال تقريباً. الجالية البريطانية في ليبيا صغيرة، وأفرادها قريبون من بعضهم بعضاً، إلا انه ومع انقطاع الاتصالات كان من الصعب متابعة الاحداث، فمع تطور الاحداث بهذه السرعة كنا نريد ان نعرف ما يجري، قررت ان نجعل من السفارة قاعدة لنا، جلبنا ما لدينا من طعام، شاب جلب 58 علبة من الفاصولياء المطبوخة، أغلقنا الستائر وتناولنا عشاءنا على أصوات البنادق في الخارج، معظم الوافدين البريطانيين يعملون في شركات النفط. وعلمت للمرة الأولى ان عائلات موظفي النفط عاشت من قبل في ظل الانقلابات، والثورات، ولهذا السبب فإن الإجلاء الطارئ ليس أمراً غريباً عليهم، ويعرفون جيدا أين توجد طائرات الإيجار التي تستطيع ان تقلع مع أول إشارة للقلاقل، وأين يجدون الطاقم الجوي الذي يستطيع ان يعمل ساعات من دون توقف مع مسافرين متعبين يفوح العرق من أجسادهم. يقيم أطفالي في بريطانيا وليس معي سوى ولدين 10 وثماني سنوات من العمر. ونُدين بنجاتنا من ليبيا إلى شركة كوكول فليبس البريطانية التي منحتنا مقاعد شاغرة في طائرة الاجلاء الخاصة بها.
في المطارات احتشد آلاف العمال المصريين والجزائريين والتونسيين من دون ان يكون في حوزتهم تذاكر سفر أو اموال أو حتى أحيانا جوازات، كانوا خائفين من الانتقام، في الوقت الذي انطلقت فيه الشائعات بأن بلادهم تقدم المساعدات للمرتزقة المنتشرين في بنغازي، وخلافا لما أظهرته الصور، فإن داخل المطار يبدو هادئاً، والحقيقة هي أن الحشود كانت متجمهرة خارج المطار تتدافع من اجل الدخول إليه. ومن يفقد موطئ قدمه فكأنما فقد كل شيء. أحد مواطني شمال افريقيا كان قريباً من صفوفنا عندما تعرض للسحق، وتم انتزاع جسده الميت عنوة أمام أعيننا، ومن شدة الفزع تمسك الولدين بشدة بيدي، ولكنهما لم يقولا شيئاً. كانت مجموعتنا تتكون من عمال النفط والمعلمين ورجال الاعمال وبعض موظفي السفارة غير المهمين، وقاد الموظفون الليبيون بعض البريطانيين للانضمام إلى صفنا، وجاءت لحظة إنسانية من مصدر غير متوقع: أحد المصريين قدّم لحافه للصبيين النائمين على البلاط العاري، وقام أحد الشرطة الليبيين المهتمين بسلامة مجموعتنا فأبعد عنا المد الزاحف من الشباب الذين كانوا يتطلعون إلينا بنظرات جائعة.
شيري دنيمان: صحافية وزوجة موظف في السفارة البريطانية في طرابلس.