عائلة العاروري تتسلم جثمان ابنها بعد 34 عاماً. الإمارات اليوم

فلسطينيون ينتظرون جثامين شهدائهم من مقابر الأرقام

تنتظر مئات العائلات الفلسطينية منذ عشرات السنين مصير أبنائها الشهداء الذين قتلهم الاحتلال الإسرائيلي، واحتجز جثامينهم في ثلاجات الموتى، أو في مقابر مغلقة يطلق عليها «مقابر قتلى العدو»، فيما يسميها الفلسطينيون «مقابر الأرقام»، إذ تعرف القبور من خلال لوحات معدنية تحمل أرقاماً، فيما تخفى أسماء من يدفن بداخلها.

ويحتجز الاحتلال المئات من جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين قتلهم أثناء مقاومتهم له بعد أن احتل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وأراض عربية في يونيو ،1967 أو جراء اغتياله بعضهم، أو المدنيين الذين قتلهم وهو يلتحقون بعائلاتهم، فيما ارتقى بعضهم شهداء وهم أسرى داخل سجون المحتل. وتقع هذه المقابر في مناطق عسكرية مغلقة، ويرفض الاحتلال الكشف عنها للتحقق من مدى مطابقتها للشروط الإنسانية والأخلاقية والصحية لدفن الموتى، فيما يمنع الأهالي من زيارة مقابر أحبائهم منعا باتا، كما أن أمر المنع هذا ينطبق على ذوي الشهداء المحتجزة جثامينهم في ثلاجات الموتى.

أسير حياً وميتاً

الشهيد أنيس محمود دوله من سكان مدينة قلقيلية في الضفة الغربية، مضى 31 عاما على استشهاده ولسان حال عائلته يسأل عن مصيره إن كان في القبور يحمل رقماً، أو في إحدى ثلاجات الموتى. وقضى دوله شهيداً عام 1980 بعد أن أمضى 13 عاماً من محكوميته المؤبدة داخل سجن عسقلان الإسرائيلي، وذلك أثناء خوضه هو والأسرى معركة الأمعاء الخاوية، وقد استشهد هو وثلاثة آخرون، فيما سلم الاحتلال جثامين الشهداء الثلاثة، ولم يسلم جثمانه حتى اليوم، كما لم يتم إخبار عائلته بمكان وجوده. وأصيب الشهيد أنيس، بحسب شقيقه حسن دوله، بهبوط مفاجئ في عمل القلب بعد أيام قليلة من فك إضراب الأسرى عن الطعام، بينما تأخرت إدارة السجن عن تقديم الإسعاف له، ولم يحضر الطبيب إلا بعد توقف قلبه عن الخفقان.

وقال حسن دوله (62 عاماً) الذي كان رفيق شقيقه في النضال لـ«الإمارات اليوم»، «اعتقل الاحتلال الإسرائيلي شقيقي بتاريخ 12-11-،1968 وكان يبلغ من العمر 24 عاماً، وذلك بعد أن اكتشف موقع المناضلين الفلسطينيين في شمال نابلس، وكان أنيس في الموقع هو ورفاقه، وقد توفي والدي بعد اعتقاله بعد شهور إثر إصابته بجلطة حادة».

وأوضح أن شقيقه والأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال أضربوا عن الطعام، للمطالبة بتحسين أوضاعهم داخل السجن، لاسيما أن الاحتلال مارس ضدهم أشد أنواع التعذيب، كما تعرضوا لظروف قاسية داخل الأسر.

وحول ظروف الاستشهاد، قال دوله «إن الاحتلال ادعى أن أنيس توفي إثر ممارسته الرياضة، فإن كان صادقا في ما ادعاه لماذا منع الأسرى من رؤيته والوصول إليه، ولماذا لم يسمح لطبيب بالكشف عن حالته، وأحضره بعد أن توقف قلبه عن الخفقان؟ كما أنه سلم جثامين الشهداء الثلاثة ولم يسلمنا جثة شقيقي، ولم يعطنا أي معلومة عن مصيره».

وأضاف «لكن رواية الأسرى الفلسطينيين داخل السجن تناقض ادعاء الاحتلال، فقد أفادوا بأن أنيس أصيب بهبوط مفاجئ وسقط على الأرض، فيما منع الاحتلال أي أحد من الوصول إليه إلا بعد أن فارق الحياة».

وطالبت عائلة دوله الاحتلال منذ استشهاد ابنهم بأن يفيدهم بأي معلومة عن مصيره، إلا أنه لم يتجاوب معهم، وفي عام 2003 وبعد أن عاد شقيقه حسن إلى أرض الوطن طالب الصليب الأحمر بأن يساعده على معرفة مصير شقيقه، وبعد فترة أبلغه الصليب بأن الاحتلال أفرج عنه في اليوم الذي توفي فيه، ولكن بعد فترة قليلة أحضر إليه شهادة وفاة شقيقه من قبل الاحتلال ولم يقدم له أي معلومات أخرى.

وقال دوله بصوت مختنق «والدتي مرضت بشكل كبير في أيامها الأخيرة، وكانت أمنيتها أن ترى جثمان أنيس وهي على قيد الحياة وتدفنه على الطريقة الإسلامية، لكنها فارقت الحياة قبل ثلاثة شهور لتحرم من تشييعه مثلما حرمت من رؤيته منذ أن كان داخل السجن، إذ إنها لم تتمكن من زيارته سوى مرتين بواسطة الصليب الأحمر».

وتنتظر عائلة أبوزنط من مدينة نابلس مصير تشييع جثمان ابنها الشهيد حافظ الذي يحتجزه الاحتلال منذ 36 عاماً، بعد تنفيذه عملية استشهادية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عام 1976 في منطقة الجفتلك في الأغوار الفلسطينية، رداً على قتل القوات الإسرائيلية الطالبة الفلسطينية لينا النابلسي، حينما كانت تسير من المدرسة باتجاه منزلها.

حملة لاسترداد الجثامين

كان مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان شكل حملة وطنية على مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة عام ،2008 للمطالبة باسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب المحتجزة لدى الاحتلال، والكشف عن مصير المفقودين منذ عشرات السنين. وتمكن المركز في شهر أغسطس 2010 من استرداد جثمان الشهيد مشهور العاروري بعد احتجاز جثمانه لأكثر من 34 عاماً، رغم مماطلات وطلبات الرفض من قبل المدعي العام الإسرائيلي لطلبات الالتماس التي قدمها المركز، فيما تمكنت عائلته من دفنه على الطريقة الإسلامية، وبما يليق بكرامته الإنسانية والوطنية. فيما قدم المركز منذ شهور إلى المحكمة الإسرائيلية العليا التماسات جديدة لاسترداد جثماني الشهيدين أنيس دوله وحافظ أبوزنط من مقابر الأرقام، وقد قبلت المحكمة طلب الاستئناف قبل أيام بعد مماطلة طويلة في محاولة لفرض اليأس على عائلاتهم، بينما ستنتظر العائلات قبول أو رفض الاحتلال تسليمهم رفات أحبابهم.

من جهته، أوضح مسؤول الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء سالم الخلة، أن القائمين على الحملة وثقوا خلال عام 2010 ما يقارب 320 حالة من الشهداء الذين تقيم عائلاتهم داخل الأراضي الفلسطينية، فيما تجرى عملية توثيق لحالات الشهداء من الفلسطينيين والعرب ممن تقيم عائلاتهم خارج فلسطين.

تجاوزات واشتراطات

وقال الخلة لـ«الإمارات اليوم»، إن المقابر التي يحتجز فيها الاحتلال جثامين الشهداء عبارة عن مدافن رملية، لا يتجاوز عمق الواحدة منها 50 سنتيمتراً، ما يعرضها للانجراف بفعل العوامل الطبيعية، فتظهر الجثامين لتصبح عرضة لنهش الوحوش والكلاب، كما أن حجم القبر يراوح بين 80 و120 سنتيمتراً، ويقع في صف قبور متاخمة لبعضها، والمسافة التي تفصل بينها تراوح بين 20 و50 سنتيمتراً، وهذا ما أكدته وثائق إسرائيلية رسمية».

وأضاف أن انكشاف الجاثمين ليس هو المظهر المأساوي الوحيد، بل إن اختلاط عظام الموتى ببعضها، يكمل هذا المشهد، حين تبدو كأنها كومة من الأشياء المهملة منذ عقود من الزمن، كأن أصحابها ليسوا بشراً، فقد حولتهم العنصرية الإسرائيلية إلى أرقام مهملة، تاركة لذويهم العذاب اليومي لحرمانهم من تشييعهم.

ويستخدم الجيش الإسرائيلي في استخراج الجثامين، بحسب الخلة، جرافة ذات كف معدنية يبلغ عرضها أكثر من متر، ما يتسبب في جرف قبرين متلاصقين فتختلط عظام الضحايا، وينجم عن ذلك صعوبة تحديد هوية الجثة، وهذا ما أكده تقرير صادر عن وزارة الصحة الإسرائيلية مركز «أساف هاروفي الطبي»، بتاريخ 7-4-،2010 ويحمل توقيع الخبيرين في الطب الشرعي البروفيسور «يهودا هيس»، و«تسيفي كهانا».

الأكثر مشاركة