تقييد الحريات لم يُفد في المواجهة مع إسرائيل

قانون الطوارئ عزز سلطة النخبة الحاكمة في سورية

السوريون خرجوا في مسيرات سلمية مطالبين بالحرية. أ.ف.ب

طوال أكثر من نصف قرن لم أحمل جواز سفر لكي أزور لبنان أو أي بلد آخر، وعلى الرغم من أنني لم أغادر سورية في حياتي، إلا أن قراراً صدر بمنعي من مغادرتها في خريف .2004 وعبثاً حاولت بعد ذلك الحصول على جواز سفر، ولكن من غير جدوى. وأمضيت 16 عاماً من شبابي في سجون بلادي، بتهمة الانتماء لجماعة شيوعية محظورة مؤيدة للديمقراطية، وخلال التظاهرات والاحتجاجات الاخيرة تم اعتقال المزيد من اصدقائي، معظمهم في سن الشباب، بموجب احكام قوانين الطوارئ التي تبيح اعتقال أي شخص.

وأفرزت قوانين الطوارئ التي تعيش سورية في ظلها منذ 48 عاماً أجواء عامة وخاصة سياسية واجتماعية عمت البلاد، وأثرت في حياة الفرد والجماعة، وعززت سلطة النخبة الحاكمة، ومدت نفوذها ليشمل كل شيء.

وليس هناك ما يوقف النظام ويمنعه من استخدام كل ما لديه من سلطات للتضييق على الشعب السوري والاساءة إليه، واليوم نلاحظ تعهداً رسمياً يتلوه آخر بأن هذه القيود والقوانين سيتم إلغاؤها ورفعها، ولكن ينبغي على أي منا ان يسأل: هل سيكون ممكناً لحزب البعث أن يحكم سورية من غير حالة الطوارئ التي ظلت سارية سنوات طوالا؟ والذريعة الرسمية لقوانين الطوارئ هي حالة الحرب مع اسرائيل التي تعيشها سورية، وعلى اية حال فإن تقييد حريات السوريين لم تكن له اي فائدة في حرب 1967 التي انتهت باحتلال اسرائيل لمرتفعات الجولان، إضافة إلى أنه لم تكن لها فائدة في اية مواجهة أخرى مع اسرائيل، وفي حالات اخرى تستدعي فعلاً فرض احكام الطوارئ بشكل حقيقي، لان كل شيء من تفاصيل الحياة اليومية اصبح يندرج تحت قوانين الطوارئ، وبالتالي لم يعد هناك وجود خاص ومتميز للطوارئ.

وقد شجع الصراع مع إسرائيل على عسكرة الحياة السياسية في سورية، وهو الامر الذي يفضله حكم الحزب الواحد، بينما أوجد إلغاء حكم القانون بيئة تساعد على بلورة نخبة حاكمة جديدة ونموها، وفي 2005 ومن غير الاستناد الى نقاش حيوي شعبي عام قرر حزب البعث الانتقال بالبلاد الى تطبيق ما سماه «اقتصاد السوق الاجتماعي»، والذي يفترض فيه الجمع والمزج بين المنافسة والمبادرة الفردية، وتطبيق المعايير السليمة والدقيقة للاشتراكية والتقاليد الاجتماعية. وفي واقع الامر اسفر تطبيق هذه السياسة عن ظهور احتكارات جديدة، وتضاءلت معايير الجودة والنوعية في البضائع والخدمات، بسبب ضعف المحاكم المحلية، وضعف استقلال القضاء، وتفشي الفساد، وتجاهل المظالم ومحاولات طمسها، أضف الى كل ذلك استحكام البيروقراطية واستفحالها، وتحول الاصلاحات الاقتصادية المفترض أن يتم تنفيذها إلى مبررات لتقاسم القوة الاقتصادية بين الاغنياء والاقوياء ولمصلحتهم، ولم تكن هذه الليبرالية الاقتصادية على صلة من بعيد أو قريب بليبرالية سياسية وتحرر سياسي، وبعد نصف قرن من الحكم «الاشتراكي» ظهرت طبقة ارستقراطية جديدة، ترفض مبادئ المساواة والمسؤولية وحكم القانون.

ولم يسجل أي حادث لاعتداء المتظاهرين في درعا واللاذقية وغيرهما من المدن على ممتلكات رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري بشار الاسد، على الرغم من الخوف الشديد والكراهية العميقة من الشعب السوري لهذه الطبقة الارستقراطية الجديدة، إذ يسيطر هذا الرجل على شبكة الهاتف الخليوي، وله ممتلكات كثيرة تجعله رمزاً واضحاً وكبيراً للقوة والنفوذ والثروة.

ومن غير وجه حق فإن الطبقة الحاكمة الحالية تواصل جمع الثروة وخيوط القوة المادية والسياسية، وينخرط افرادها في انشطة متصلة بهذا الامر، منعزلين بانفسهم عن تفاصيل الواقع اليومي الصعب الذي يعيشه معظم السوريين، ولا يستمعون لآهات وزفرات معاناتها.

وفي السنوات الاخيرة تبلورت في اوساط الارستقراطية الجديدة وانتشرت ثقافة ازدراء العامة واحتقارها.

وعلى الرغم من أن البعض يجادل بأن دوافع دينية تقف وراء اندلاع التظاهرات، إلا انه ليس هناك مؤشر على أن الاسلاميين لعبوا دورا رئيساً في الاحتجاجات الاخيرة، على الرغم من أن كثيراً منها انطلق من المساجد. وهناك اعتقاد واسع النطاق بان الحكومة لا تملك من الامر شيئاً بالنسبة لتجمعات المصلين في المساجد، ولا يمكنها قمعهم، كما أن الشعارات والهتافات التي تم ترديدها في مسجد الرفاعي في دمشق في اليوم الاول من ابريل الجاري لم تكن دينية، وإنما كان المتظاهرون يرددون «واحد واحد كل الشعب السوري واحد».

والسوريون يريدون الحرية، ويدركون جميعا انها لا يمكن ان تعيش في تربة الخوف التي تحتضن الاستبداد، كما يقول المفكر الفرنسي مونتيسيكيو، ونعرف هذا الأمر جيداً أكثر من أي شخص آخر.

ما يهم السوريين من خلال تظاهراتهم واحتجاجاتهم الحالية هو البحث عن المساواة والعدل والكرامة، وليس الدين، وهذا ما حفز كثيراً منهم على التغلب على الخوف من الحكومة، الامر الذي يضع النظام في وضع دفاعي. ويتمتع النظام في سورية بدعم اوسع واكبر مما كان يتمتع به نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، أو نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وهذا في حد ذاته ميزة تكسبه القوة وتجعل الرئيس الاسد يبدو اكثر ثقة وشجاعة في الاعتماد على قوات الامن لانهاء الاحتجاجات. وإذا كان هذا النظام حريصا على صيانة سمعته ومكانته التي تآكلت وتضررت، فلابد له من الاستجابة لمطالب المتظاهرين والمحتجين التي طال انتظارها، خصوصاً الحرية والمساواة.

وعلى أي حال ومهما كانت نتائج الاحتجاجات، فإن سورية أمام طريق صعب لا بد لها من اجتيازه، ويراوح بين آلام القمع ووعورة طريق الحرية وثمنها، وبطبيعة الحال أنا مع الشق الاخير، فانا لا اريد العيش في اي مكان إلا في سورية، وعلى الرغم من تطلعي بكل أمل للحصول على جواز سفر لزيارة اخوتي في أوروبا، الذين لم اشاهدهم منذ أكثر من 10 سنوات، وأخيراً فإنني أرغب في الشعور بالأمن والأمان.

 ياسين الحاج صالح

كاتب وناشط سياسي سوري

المقال منشور في الغارديان ــ مترجماً عن العربية ــ في «نيويورك تايمز»

تويتر