ميدان التحرير لم يعد ملهماً ومحفزاً على تفجير الثورات
الديمقراطية في مصر بحاجة إلى مزيد من «القتال»
في ميدان التحرير الذي شهد ولادة ثورة 25 يناير 2011 يمكنك الحصول على أي شيء، من الذرة المشوية الى رحلة رخيصة التكاليف إلى شرم الشيخ ولافتات وأعلام وعبوات قنابل غاز. وعلى الرغم من وجود الآلاف هناك كل يوم، إضافة الى تجمع مليوني الطابع والحجم كل يوم جمعة، فإن المرحلة الاولى من الانتخابات التشريعية في مصر بدأت تثير الشكوك حول من يمثل مصر الآن. فهل هم الثوار الشباب العلمانيون في التحرير؟ ام القائمة المتزايدة من المرشحين الاسلاميين الفائزين ـ من الاخوان المسلمين والسلفيين ـ والملايين الذين صوتوا لهم؟ ولكن بالتأكيد فإن رئيس المجلس العسكري الحاكم المشير محمد حسين طنطاوي ليس ممن تشملهم قائمة التنافس على تمثيل مصر.
وفي ميدان التحرير تتعدد الرؤى والافكار، لكنه لم يعد ذلك المكان الذي ولدت فيه الثورة التي أطاحت بالرئيس المصري السابق حسني مبارك، حيث خفتت الآمال على الرغم من إصرار الشباب على ضرورة رحيل المجلس العسكري عن دفة القيادة. وهناك شكوك قوية في ما يذهب اليه البعض بشأن احتمالات اصطدام المجلس العسكري بالاخوان المسلمين، القوة السياسية الاكبر، لأنه لا يريد تسليم السلطة فعلياً، ولا يخفي رغبته في مواصلة الحكم ولو من وراء ستار.
ولم يتضمن رحيل مبارك تسليم السلطة مؤقتاً لرئيس المحكمة الدستورية ليجري انتخابات حسب الدستور، كما حدث عام ،1971 وإنما تم تسليمها للمشير طنطاوي وزملائه في المجلس العسكري الذي لا يأتي إلا برجال مبارك، وآخرهم كمال الجنزوري المكلف بتشكيل حكومة انتقالية جديدة.
والغريب ان المجلس العسكري منذ الثورة اعتقل آلاف المتظاهرين، والعديد منهم عذبتهم الشرطة، وفي ظل ما قامت به قوات الجيش من دور قمعي في مصادمات الشهر الماضي يتساءل البعض: هل هذا هو الجيش ذاته الذي خاض حرب اكتوبر 1973 وأسقط اسطورة التفوق الاسرائيلي واستعاد المجد والكرامة لمصر؟ ومع ذلك فقد وجد المجلس بضعة آلاف يتظاهرون لتأييده مثل جماعة «نحن نحب النظام» التي شهدناها في القاهرة في وقت مبارك، وفي تونس ايام (الرئيس المخلوع) زين العابدين بن علي، وفي طرابلس وقت (الزعيم الليبي الراحل معمر) القذافي، وفي دمشق لـ(الرئيس بشار) الاسد، وفي اليمن لـ(الرئيس) علي عبدالله صالح. ولكن هناك من يجادل بان الصدام بين هذا المجلس ومجلس الشعب الجديد الذي ستفرزه الانتخابات التشريعية، يبدو أمراً حتمياً لا مفر منه، إلا اذا كان الاخوان المسلمون وغيرهم من القوى الاسلامية قد عقدوا صفقة سرية مع المجلس العسكري يسمح للاسلاميين بالحكم، ولكن تحت مظلة المجلس الذي سيبقى سلطة فوق السلطة.
وفي ميدان التحرير يمكن ببساطة لكل منا أن يكون ساخراً ومتهكماً ومتشائماً، فالشباب والثوار والعلمانيون وذوو الشهداء الذين سقطوا في احداث يناير وفبراير الماضيين تتملكهم رغبة قوية في رحيل المجلس العسكري، ووضع حد لعمليات القمع الدموي لقوات الشرطة، واستعادة وتفعيل القوانين التي تضبط عمل وزارة الداخلية.
وتكريماً للقتلى والجرحى الذين سقطوا برصاص الشرطة والجيش في تظاهرات الشهر الماضي، (وبينهم 49 فقدوا أعينهم)، أعاد المتظاهرون وشباب الثورة تسمية شارع محمد محمود المؤدي الى وزارة الداخلية ليصبح شارع «عيون الحرية». وكان محمد محمود وزيراً للداخلية في حكومة حزب الوفد قبل ثمانية عقود في عهد الملك فاروق، كما اعتقل محمود لفترة في مالطا مع زعيم ثورة 1919 سعد زغلول الذي يحظى باحترام وتوقير كبيرين من المصريين على اختلاف شرائحهم، ويعتبر الأب الروحي لكل الثورات اللاحقة التي شهدتها مصر ضد السلطات البريطانية. واصبح ميدان التحرير مجرد مكان رمزي يستحضر لدى كل من يزوره ذكريات واحداثاً جميلة وذات معنى عن الايام التي سبقت الاطاحة بمبارك ونظامه، نعم لقد انتصر الشعب وسقط مبارك ومعه نظامه، وتم اعتقال معظم رجاله ورموزه، ولكن ميدان التحرير لم يعد ملهماً او قوة محفزة على تفجير الثورات.
وها هو المشير طنطاوي يكلف الرجل العجوز الجنزوري احد رجال مبارك بتشكيل حكومة انتقالية جديدة قيل انها ستضم شباباً، ولكن معظم اعضائها من كبار السن.
وتقول وسام محمد (26 سنة) المترجمة التي تواصل دراستها لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية، والتي تلف رأسها بحجاب أنيق، انها مازالت ثورية وتعتقد ان المجلس العسكري لن يسلم السلطة الا بالمزيد من التظاهرات، وتضيف انها تشعر بالحزن العميق، لأن اغلبية القتلى والجرحى الذين سقطوا في الاحداث الاخيرة الشهر الماضي، كانوا من ابناء الاسر الفقيرة، وان احساسها مازال قائماً بقوة ولا يفارقها بان مبارك الذي ترمز اليه بـ«مستر سميث» في رواية الانجليزي جورج أورويل في عام ،1984 لم يرحل فعلياً، فرجاله مازالوا موجودين وقد يعيدونه الى قصر الرئاسة.
وحينما نتحدث عن الوضع الاقتصادي في مصر، يقول الصحافي وائل جمال الذي كان محرراً للشؤون الاقتصادية في صحيفة «الشروق» اليومية، إنه «ليس هناك واحد من الاعضاء الـ20 في المجلس العسكري يفقه لغة النقود او في قضايا الاقتصاد، وانهم يريدون تخويف الشعب بقولهم ان مصر في طريقها نحو الافلاس»، في محاولة منهم لمنع الناس من الخروج الى الشوارع للتظاهر. ويضيف جمال، بعد مشاركته في المرحلة الاولى من الانتخابات التشريعية، انه صوّت لمصلحة قائمة «الثورة العلمانية»، وانها المرة الاولى في حياته، وقد اصبح عمره 40 عاما، التي يمارس فيها الاقتراع الانتخابي، ولم يشارك من قبل في أي انتخابات لأنها كانت مزورة.
ويقول إن «اختيار الجنزوري لتكليفه برئاسة حكومة انتقالية جديدة كان اختيارا بغيضاً حقاً، لأنه سيبقي على ثلثي اعضاء الحكومة السابقة، ومنهم وزير الكهرباء حسن يونس ووزير التخطيط فيصل نجا، اللذين كانا من وزراء مبارك، واعتقد ان الشعب سيعود الى ميدان التحرير بعد الاعلان عن نتائج المرحلة الاولى لانتخابات مجلس الشعب، لكن ما حدث كان تقدما ايجابيا كبيرا ومقارنة بما كان يحدث في الماضي، فأنا متفائل».
لقد انتهت صورة الجيش التي تكونت على مدى الاشهر التسعة الماضية كـ«حامي» الدستور والشعب والبلد وحارسهم، وتم استهلاك هذه الصورة، فمن كان يتصور ان المتظاهرين سيهتفون بسقوط المجلس العسكري ورحيله؟ إن ما حدث امر جيد بالنسبة لتقدم العملية السياسية في مصر، لكن المشكلة هي ان المصريين في ميدان التحرير ليست لديهم القوة لمواجهة شبكة المصالح التي تقف وراء المجلس، والتصدي لرموز النظام السابق وتصفية آثاره وسياساته وممارساته في اماكن العمل. وفي الفترة المقبلة لابد للمصريين من خوض قتال حقيقي ضارٍ من أجل الديمقراطية والتغيير الاجتماعي.
روبرت فيسك كاتب ومحلل صحافي متخصص في شؤون الشرق الأوسط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news