موسكو اختارت أن تضع نفسها في الجانب الخطأ من التغيير في المنطقة
الفيتو الروسي.. دعم للأسد بعقلــية «الحرب الباردة»
في اليوم التالي (لاستخدام روسيا حق النقض في مجلس الأمن الدولي ضد قرار حول سورية) سمعت وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يشرح دعم موسكو لأساليب القمع الدموية التي يمارسها نظام (الرئيس السوري) بشار الأسد في سورية، ولا اقصد ان السيد لافروف عبر عن الموقف بذاك الأسلوب، فهو رجل ذكي ودبلوماسي سابق حاذق، يتمتع بالخبرة والحنكة، استطاع ان يوظف كل اساليب الدهاء ليوضح ان روسيا، خلافاً للدعاية الغربية الشريرة، تعمل بشكل عادل كلياً، وهذا من شأنه ان يعود بنا للوراء لسياسة الحرب الباردة.
الفيتو الروسي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ـ الذي تعاضده الصين ـ له تأثيره السابق واللاحق، فقد ضاعف الأسد من هجماته العسكرية على خصوم نظامه متجاهلاً أي تمييز بين المدنيين والثوار المسلحين، ما رفع عدد القتلى بشكل حاد، وانكمشت جهود جامعة الدول العربية لتأمين وسيلة يمكن التفاوض حولها بشأن انتقال السلطة في الوقت الذي تسير فيه سورية نحو حرب أهلية شاملة.
هناك مبررات عدة لهذا الفيتو، فقد كانت اسرة الأسد حليفاً استراتيجياً لموسكو منذ العهد السوفييتي، وتعتقد موسكو وايضا بكين انهما تعرضتا للخداع لدى قبولهما بقرار الأمم المتحدة الذي أدى الى إزاحة (الزعيم الليبي السابق معمر) القذافي، ويعد ميناء طرطوس السوري قاعدة عسكرية روسية حيوية، وهناك عقد اسلحة كبير على المحك. كل هذه العوامل تصب في عقيدة موسكو الداعية بعدم التدخل.
ظهور لافروف في مؤتمر ميونيخ للأمن قد يعبر أيضاً عن شيء آخر، وهو ان روسيا في موقف دفاعي، ومن المفترض ان تفتح الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل الباب أمام (رئيس الوزراء الروسي فلاديمير) بوتين لقضاء فترة رئاسية مدتها 12 عاماً، ويتعرض السيد بوتين الآن لصيحات الاستهجان من جماهير شعبه، التي كانت من قبل صديقة له، كما يواجـه احتجاجات في شوارع موسكو. وكل شيء، بدأ من عدم الرضا في روسيا وانتهاء بالانتفاضات في العالم العربي تنظر اليها موسكو عبر منظار مؤامرة أججها الغرب ضدها.
روسيا، كما يجادل البعض، ينبغي ان تحظى بالاحترام الذي كانت تلقاه ابان الحرب الباردة، وفي حقيقة الأمر فإن بوتين يشبه (الرئيس السوفييتي الراحل) ليونيد بريجنيف، العصر الراهن، حيث ان الحديث المنمق الطنان لا يستطيع ان يخفي حقيقة البلبلة في الداخل.
وعندما تستمع إلى حديت لافروف تعتقد ان بائع الخضار التونسي (محمد البوعزيزي) ـ الذي أدى اشعاله النار في جسده الى اشعال ثورات الربيع العربي ـ كان يعمل لمصلحة وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه)، وان الإسلاميين في بنغازي والشباب والنساء في ميدان التحرير، يقبضون ثمن ثوراتهم من الغرب، وان الثورة ضد الأسد احدث مؤامرة تحيكها واشنطن.
اغرب ما في الأمر ان الصحوة السياسية في العالم العربي اخذت الجميع على حين غرة، ويجب ان نعترف بأن الغرب لم يكن ينظر دائماً بعين الرضا لهذه الهزة، فالغريزة الفرنسية كانت تفضل دعم نظام (الرئيس التونسي السابق) زين العابدين بن علي، وفقدت الولايات المتحدة حليفاً عربياً قيماً بسقوط (الرئيس المصري السابق) حسني مبارك، ولم تحدد ادارة الرئيس الأميركي باراك اوباما، ما اذا كانت ستتعامل مع الاسلاميين المنتخبين حديثا كأصدقاء ام اعداء.
والحقيقة التي لا مهرب منها ان المشهد الجغرافي السياسي للمنطقة بدأ يتغير، وكان في استطاعة كل من روسيا والولايات المتحدة رسم خطوط تمثل نطاقات نفوذها اما الآن فالعرب قد استعادوا ملكيتهم للشرق الأوسط.
اختارت روسيا ان تضع نفسها في الجانب الخطأ من هذا التغيير الذي يعتري هذه المرحلة، حيث ان تأييدها للأسد ينذر بأن يغير نظرة الإقليم للقوتين العظميين، إذ إن تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل ودعمها للأوتوقراطيين العرب لعقود من الزمن، جعلها هدفاً للاحتجاجات في الشوارع العربية.
والآن، بعد بداية متعثرة، وضعت واشنطن نفسها في صف الاصلاحيين، اما روسيا فاختارت ان تكون المدافع عن انظمة الأمر الواقع السلطوية.
هذا الأسبوع شاهد العالم العربي السيد لافروف يتلقى استقبالاً حافلاً من مؤيدي الأسد في دمشق، وعندما ينتقل العرب الى مشاهد الحصار الدموي الذي تتعرض له حمص فإنهم يتذكرون ان موسكو خذلت مسـاعي الجامعـة العـربية لتهدئـة الصـراع.
واصبحت الحكومة التركية تردد بمفردها ان الفيتو منح الأسد ترخيصاً لقتل شعبه.
فضلت الصين الابتعاد عن الأضواء خلال الأزمة، مشيرة الى معارضتها التقليدية للتدخل في شؤون الدول ذات السيادة، الا ان بكين أخطأت ايضا في قراءة الرأي العربي والدولي، إذ إن عقيدة عدم التدخل لها مبرراتها في الماضي، كضرورة ملحة لحماية مثل هذه الدول من تغول الدول الإمبريالية الغربية، اما الآن فإنها تبدو مبرراً لدعم الاضطهاد.
اما بالنسبة للغرب، فعلى الرغم مما يخشاه لافروف من كوابيس غربية، هناك حماس ضئيل للتدخل في سورية، فقد كانت ليبيا حرباً صغيرة، ولم يكن من السهل فرض مناطق حظر طيران او مناطق آمنة، اما بالنسبة لسورية فإن الأمر يتطلب تحطيم قوة الأسد الجوية، في الوقت الذي فقدت فيه وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) شهيتها للحروب في الشرق الأوسط منذ فترة طويلة.
سيفرض الغرب عقوبات على سورية وسيضطر تحت الضغوط إلى إرسال شحنات اسلحة للثوار، الا انه يميل لترك القيادة للجامعة العربية وتركيا، وكلما طال امد العنف كلما زاد خطر الحرب الأهلية الطائفية والمواجهة السنية ـ الشيعية الواسعة في المنطقة. لا سيدي لافروف، ليس ما يجري تخطيطاً غربياً، وما حدث ان الأمور تغيرت في سورية والشرق الاوسط وبالطبع في روسيا ايضا، ولا احد مهتم الآن بلغة الحرب الباردة.
فيليب ستيفنز كاتب مهتم بشؤون الشرق الأوسط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news