العنف فــي الجنـوب الليبي أخطر من معركـة إسقاط القذافي
تهدد أعمال العنف في الجنوب الليبي بين القبائل العربية والسود استقرار البلاد بعد الإطاحة بالزعيم الليبي السابق معمر القذافي، ويسعى المجلس الوطني الانتقالي بكل جهده إلى إطفاء تلك النيران العنصرية، ويعتقد المراقبون ان الوضع أخطر من ذلك على الرغم من الهدوء في الشمال.
خيبة
تبادل أعضاء المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا الابتسامات اثناء عودتهم جواً الى العاصمة بعد قضائهم يوماً واحداً في واحة الكفرة (المركز التجاري)، التي تبعد 1700 كلم الى الجنوب من العاصمة، بعد ان استطاعوا حث الزعماء القبليين على وقف القتال القبلي الذي اشتعل هناك خلال الشهرين الماضيين ونتج عنه مقتل عشرات المدنيين، وأقنعوهم بالاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي وانتزعوا منهم وعداً بالحفاظ على وحدة التراب الليبي، وما كادت الطائرة النفاثة التي استخدمها من قبل الزعيم الليبي السابق تقلع من مطار المنطقة حتى اندلع القتال من جديد.
ومنذ أطاح الثوار بالدكتاتور الليبي بعد 42 عاماً من الحكم ظل المجلس الوطني الانتقالي يصارع من اجل تأكيد سيطرته على البلاد، التي تعني السيطرة على حدود طولها 6000 كلم تجعل من ليبيا رابع اكبر دولة افريقية من حيث المساحة، ففي الوسط والجنوب ظل البربر والأفارقة السود في صراع مرير مع القبائل العربية للسيطرة على المدن والمراكز الحدودية بما في ذلك طرقهم الخاصة بالتهريب.
فوضى السلاح
وتكتظ المناطق الليبية القريبة من الساحل على الحدود التونسية من زوارة في الشمال الغربي حتى واحة الكفرة المتاخمة لمصر والسودان في الجنوب الشرقي، بالأسلحة المهربة من ترسانة العقيد الراحل، فالكثير من السكان المحليين الذين كانوا يتعرضون للكبت تحت حكم القذافي خرجوا مرة اخرى للقصاص والأخذ بالثأر، وتدفقت الميليشيات من مناطق الساحل الى الجنوب لمساندة القبائل العربية، كما جاء أفارقة من جنوب الصحراء لدعم قبائل التوبو السوداء التي تقطن جنوب ليبيا، وساعد تدفق الاسلحة قبائل الطوارق ( اقرباء البربر) على الثورة واعلان الانفصال من الحكومة المحلية في مالي، كما تأثر كل من تشاد والنيجر بهذا الوضع الذي افرزه سقوط القذافي، وامتد تأثيره ايضاً في مصر وتونس.
يقول احد الاساتذة في جامعة سبها، المدينة الصحراوية، ان اندلاع اعمال العنف العشائرية تشكل خوفاً ورعباً اكثر من ذلك الصراع الذي اطاح بالقذافي، لأن الصراع لإسقاط القذافي دار اساسا للسيطرة على القواعد العسكرية والمباني الحكومية، بينما الصراع القبلي الحالي يدور في ازقة وحواري المدن، ففي سبها اغلق رجال قبيلة «أولاد سليمان»، التي ينتمي اليها الاستاذ الجامعي، مدينة طيورة العشوائية التي يسكنها خصومهم من قبيلة التوبو ورجموها بقذائف الدبابات لثلاثة أيام متوالية.
أحقاد
وعلى الجدران بدت كتابات تعبر عن الكراهية العرقية بين العرب والسود، وأغلقت جامعة الكوفة ابوابها، وتوقفت مصانع زوارة الحكومية القليلة عن العمل، الكثير من المدن والمناطق القريبة من الحدود اصبحت مناطق مقسمة بين الفرق المتخاصمة، في الوقت الذي تصل فيه قوات الحكومة لمراقبة الموقف. ويستطيع مؤيدو القذافي القول «لقد حذرناكم من قبل من حدوث هذا الشيء»، «لقد تعلمنا ازدراء التحرر»، كما قال مستشار محلي في مدينة ريغدالين الواقعة على الحدود مع تونس.
هدوء نسبي
تسعة أعشار الشعب الليبي يعيشون على الشريط الساحلي للبحر الابيض المتوسط في افضل حال، وخضع معظم الثوار الذين قادوا الشغب في العاصمة طرابلس بعد سقوط النظام القديم، الذين نهبوا الموانئ والمطارات لسلطة جيش قوامه 50 الف جندي، وتوقفت تلك الطلقات التي كانت تعكر صفو الليالي بعد سقوط النظام القديم، وصارت الشرطة تحكم سيطرتها على مفارق الطرق صباحا ومساء، وعاد وكلاء السياحة وباعة السيارات الذين حملوا السلاح ضد القذافي مرة اخرى لممارسة اعمالهم كالمعتاد. احد الثوار صار الآن يرتدي ربطة عنق ويدير مقهى تحت الاعمدة الرومانية الواقعة في ميدان الجزائر، وبدأت العاصمة تتنشق هواء مدنياً جديداً.
بدأ مستوى انتاج النفط يعود تقريباً إلى معدله القديم مع بعض الشكوك المثارة حول المكان الذي تذهب اليه العائدات، ويقول وزير النفط إن مستوى الانتاج ينبغي ان يرتفع بمعدل 25٪ ليصل الى مليوني برميل يومياً بحلول عام ،2014 وبدأت الرحلات الجوية تحمل من الخارج اطقما شتى من رجال النفط، ونشطت التجمعات الثقافية والسياسية في كل مكان، وبدأت محطات الإذاعة تبث موسيقى البوب الأميركية لأول مرة منذ عقود من الزمان. ونشطت السياسة على الرغم من الفوضى التي تعتريها، واشتد التوتر بين المجلس الوطني والحكومة، لا احد يعلم بالضبط كم عدد الاعضاء الذين يشكلون المجلس (اكثر من 80 عضواً ربما) او من هم الاعضاء على الرغم من الاقتراح الذي يطالب بالبث الحي لمداولاتهم الاسبوعية، وبدا تسجيل الناخبين ابتداء من الاول من مايو استعداداً لإجراء اول انتخابات متعددة الاحزاب في البلاد في 19 يونيو المقبل لتشكيل الجمعية الوطنية التي سيتخلى لها المجلس الوطني عن سلطاته.
ميليشيات
وعلى الرغم من كل ذلك لايزال العنف يسود المكان، ففي العاشر من شهر مايو الجاري حاول رجال الميليشيات اقتحام مكتب رئيس الوزراء عبدالرحيم الكيب خلال اجتماعه مع وزير الدفـاع بإطلاق قذائـف هاون، الامر الذي ادى إلى مقتل بعض من حراسهما، ويقدم سائقو التاكسي لركابهم اعلانات عن آخر موديلات الأسلحة، ويحتمل ان معظم رجال الميليشيات المناهضة للقذافي، الذين تم استيعابهم في الجيش النظامي يحتفظون بولائهم المحلي والقبلي. بعض نقاط التفتيش صار يخفرها رجال ميليشيات غيروا ببساطة طلاء سياراتهم وصاروا يرتدون ازياء رسمية متعددة الألوان، وتتوتر العلاقة بين الثوار السابقين الذين يعتقدون أن الثورة ملكهم وبين جنود القذافي الذين لايزالون يحتفظون بمناصبهم في الجيش.
وفوق كل ذلك، فإن ليبيا لن تستقر بالكامل الا اذا تمت السيطرة الكاملة على الجنوب حتى ولو اعتقد ليبيو الساحل أن تلك الزوبعة تدور في الصحراء داخل افريقيا ولا تعنيهم، فهناك توجد آبار سليمة لم تصب خلال الحرب ضد القذافي، والتي توفر الماء والنفط اللذين تعتمد عليهما ليبيا، كما ان العنف في الجنوب قد يؤثر في الانتخابات، ويقول المرشحون المحتملون من الجنوب إنهم يترددون في الترشح خوفاً من اغتيالهم. وأعرب رئيس الوزراء الليبي خلال زيارة له الى سبها عن اعتقاده أن عدم الاستقرار في الجنوب نادر، ما يؤثر في ليبيا.
وقد استطاعت بعض الشخصيات القيادية المساعدة في التوسط بين القبائل المتحاربة مثل قائد اركان الجيش السابق، خليفة حفتر، وقال ان على الجيش الجديد المغامرة في الخروج من قواعده الساحلية للتعامل مع القلاقل في الكفرة وسبها وزوارة، والسيطرة على المطارات والعمل كعازل بين المجتمعات المتناحرة.
اما الميليشيات التي استحوذت على السلطة المركزية اصبحت تسبب هاجساً للبلاد، إذ تتواتر الاخبار بأن هناك اكثر من 20 مليون قطعة سلاح في البلاد خارج سيطرة الحكومة، فبعد ان أعلن الجيش وقف اطلاق النار بين القبائل في الكفرة وصلت الميليشيات الاسلامية من بنغازي ترفع العلم الاسود استعداداً للحرب. ويقول احد اعضاء المجلس الوطني في طرابلس «يبدو أن التخلص من القذافي كان الجزء الأسهل من كل هذه العملية».