المجتمعات العربية بحاجة إلى ربيع في الفكر
خلال زيارة لي أخيراً إلى الولايات المتحدة سألني مثقفون وصحافيون: هل تم تضليلنا خلال الصحوة العربية في ما يتعلق بالتفكير في ان المسلمين يمكن ان يحققوا المثاليات والقيم الديمقراطية؟ والجواب القصير والسريع هو: «لا»، فالمشاركون في المظاهرات والاحتجاجات الغاضبة على الفيلم الأخير المسيء للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والإسلام، كانوا اقلية وكان عنفهم مرفوضاً، ولم يكونوا يمثلون عشرات ملايين المسلمين الذين ملأوا الشوارع منذ 2010 في تجمعات منتظمة وتحركات منضبطة ومدروسة وغير عنيفة للإطاحة بالديكتاتوريات وانظمتها الاستبدادية.
ومع ذلك فقد اصيب اميركيون كثيرون بالصدمة لحالة الفوضى والعنف الدموي الذي عم العديد من الدول الإسلامية، معتقدين انهم انما جاؤوا من باب التكرم لمساعدة الشعوب العربية في انتفاضاتها، لكن العرب والمسلمين بشكل عام لديهم ذاكرة اعمق واطول ووجهة نظر أشمل.
وما يغذي ازمة انعدام الثقة بين الشعوب العربية والإسلامية واميركا، هو دعمها لعقود طويلة للأنظمة الديكتاتورية التي تحافظ لها على مصالحها الاقتصادية والأمنية، ومن خلال غزوها العراق وافغانستان واساءة معاملة السجناء في «ابوغريب» و«غوانتانامو»، إضافة الى الدعم الأميركي الأعمى والمطلق وغير المشروط لإسرائيل مادياً ومعنوياً وسياسياً.
ومن اهم وافضل ما يمكن ان يتم تقديمه من نصائح للأميركيين وحلفائهم الأوروبيين، النظر بتمعّن في اسباب غليان المسلمين وغضبهم. ولعل الانسحاب من افغانستان واحترام قرارات الأمم المتحدة والالتزامات المترتبة على ما تم التوصل اليه من اتفاقات بشأن فلسطين، والتوقف عن شن الغارات القاتلة للطائرات بلا طيار وطي ملف «الحرب على الإرهاب».
وعلى اية حال فقد حان الوقت لكي نكف عن لوم الغرب بشأن الاستعمار والإمبريالية والهيمنة في الماضي، وعلى المجتمعات ذات الاغلبية الاسلامية ان تتخلص من شكاواها وعقدها التاريخية بأنها ضحية، وتقبل فكرة انها عوامل تم استغلالها وتوظيفها من جانب الآخرين، وان ملايين العرب هم من تظاهروا في الشوارع والساحات العامة، العام الماضي، وغيروا مسار التاريخ وحركته. والعبارة الكليشية التاريخية المعروفة «الاسلام ضد الغرب» تفسح المجال امام حقبة من العلاقات المتعددة الأقطاب، كما أن مركز الجاذبية للاقتصاد العالمي يتحرك باتجاه الشرق.
غير أن تزايد اهمية الصين وروسيا والهند، وصعود قوى مثل البرازيل وجنوب افريقيا وتركيا، لا يعنيان بشكل تلقائي واوتوماتيكي ضماناً للديمقراطية، ويبدي بعض المسلمين تسرعاً في الابتهاج لضعف القوة الأميركية، ويبدون جهلاً بما يمكن ان يحل محلها.
والشعوب العربية، شأنها شأن شعوب اميركا اللاتينية وافريقيا واسيا، لا تستطيع ولا ترغب في تجاهل عادات وقيم دينية وثقافية طالما رعتها وتعهدتها. ومع سعي العرب الى قيم مثل الحرية والعدالة والمساواة وتقرير مصير الذات والتعددية وانماط جديدة من الديمقراطية والعلاقات الدولية؛ فإنهم بحاجة الى أن ينسحب كل هذا على التقاليد الإسلامية.
فالإسلام يمكن ان يكون تربة صالحة وخصبة للإبداع السياسي، وليس عقبة للتقدم كما يحاول المستشرقون والمفكرون الغربيون ان يشيعوا. وتحتاج الشعوب العربية والاسلامية ليس الى انتفاضات سياسية، وانما الى ثورات جذرية فكرية وثقافية من المفكرين والمثقفين، بحيث يتم من خلالها فتح الباب امام تغييرات اقتصادية وتحرر وانفتاح ديني وثقافي يفسح المجال امام الاستفادة من طاقات المرأة وكفاءتها، وهذه مهمة ليست سهلة، حيث يستمر الصراع بين السلطات الدينية والسياسية في هذه الشعوب العربية والإسلامية.
وحالياً، فإن الفكر العربي يتعرض للعرقلة والإعاقة بسبب صراع الأيديولوجيات، الذي يضع الإسلاميين والعلمانيين في مواجهة بعضهم، ما يجعل من المستحيل إلقاء نظرة ثاقبة وفاحصة على الداخل لسبر واستقصاء مدى حدود العمق الثقافي والفكري لكل منهم.
وعلى الرغم من الحديث الذي لا ينقطع من النخب العلمانية المتغربة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، الا انهم يحملون اجندات ذات طبيعة استعمارية ليست لها اية صلة بالشعوب التي يقولون انهم يمثلونها، واذا لم يكونوا كذلك فهم مثل بعض الحركات الشعبية اليسارية ذات التاثير الهامشي والبسيط. كما ان بعضهم تعاون مع الحكام الديكتاتوريين واستفاد من الفساد الكبير في انظمتهم، بينما ظل قسم منهم مقرباً من الدوائر الداخلية المقربة من العسكر (كما حدث في مصر وتونس وسورية والعراق). وبوقوفهم ضد أي تداخل بين الدين والسياسة فقد استبقوا غيرهم الى رؤية مستقبلية للعملية الديمقراطية غير المرتبطة بالماضي الإسلامي والعادات والتقاليد، وقد دفع الإسلاميون على مدى عقود أثماناً باهظة لمعارضتهم الأنظمة الديكتاتورية، وحققوا نتائج ومكاسب انتخابية في المغرب ومصر وتونس، بتبني تغييرات في هياكل السلطة واجهزتها.
ولا يمكن ان تكون هناك ديمقراطية في الشرق الأوسط من غير اعادة هيكلة الاقتصاد ومؤسساته واعادة ترتيب اولوياته من خلال التصدي بقوة وحزم للفساد، والحد من صلاحيات الجيوش وقادتها وامتيازاتهم، واعادة النظر في العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى بما يحفظ مصالح الشعوب، مع اعطاء الأولوية والأفضلية في المعاملات للدول الإسلامية. كما ان تحقيق مجتمع خلاق وديناميكي مرتبط الى حد كبير بإصلاح انظمة التعليم بمختلف مراحله وتوفير المدارس والمعاهد والجامعات وازالة كل العراقيل التي تعيق تعليم المرأة وممارسة حقها كاملاً في العلم والعمل وتوفير التأمين الصحي والمستشفيات للجميع من غير تمييز.
طارق رمضان - أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة في جامعة أوكسفورد البريطانية، وحفيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين