الحكمة والقانون والدين لتبرير القتل في سورية
بما أن العسكريين يميلون الى تفضيل الاعتماد على القوة في حل النزاعات في إطار الدول ذات السيادة، كذلك فإن الرافضين للعنف الذين انهكتهم الحرب سيبحثون عن حلول بالاصرار على اعتماد اساسيات الدبلوماسية القائمة على اللاعنف.
وفي الدول الديمقراطية الليبرالية فإن معظم الناس يعتمدون على تقديرات وسائل الاعلام التي لا يمكن الوثوق بها في تكوين مواقفهم وأحكامهم من الأحداث في العالم، فكيف إذن يمكننا فهم ما يجري في سورية من محنة عنيفة ورهيبة؟
وغالباً ما تكون التصورات القائمة على الاستقطاب في النزاع هي الوسيلة لنقل انطباعات غير صحيحة، فمن جانب واحد يمكن الاكتفاء بالقول إن المذابح ضد المدنيين والعنف من عمل نظام الرئيس السوري بشار الاسد الذي له باع طويل في القمع الوحشي والدموي، أو في المقابل القول ان هذه الدولة البائسة - سورية - أصبحت مشهداً لحرب تخوضها اطراف بالوكالة عن اطراف ودول أخرى خارجية ليس لديها احساس بالمسؤولية بنغمة طائفية على إيقاع انقسام طائفي حاد في المنطقة، وتعقيدات أخرى مثل تحالفات جغرافية وسياسية، وطموحات لدول مثل الولايات المتحدة وروسيا واسرائيل وايران وتركيا، وغيرها.
مما لا شك فيه ان الحقيقة تكمن في مكان ما بين قطبين يكتنفهما كثير من الغموض بسبب التدخلات والتجاذبات العديدة، وعوامل أخرى تقوض قدرتنا على الوصول الى فهم موضوعي لما يجري، وتجاهل ما تقوم به الأيادي القذرة للأطراف المتورطة سواء كانت هذه الايادي ظاهرة أو خفية، ولتسمح بوجود موقف أو وجهة نظر واضحة حاسمة مع أو ضد ما يجري.
وتبدو الصعوبات كبيرة، فإذا حاولنا إيجاد تفسير للازمة من جميع الزوايا بمنطق فصل كل زاوية عن الأخرى فإن النتائج ستكون على الارجح الشلل، وهناك الكثير من التشويش والفوضى والسرية والتعقيد يعيق وضوح الرؤية اللازم لبلورة سياسة تضع حداً للقتل والدمار، والواقع يقول ان التوصل الى نتائج مسؤولة وعملية يبدو امراً غير ممكن في ضوء تفسيرات مشوهة وعاجزة تسهم في استمرار المشهد السوداوي والقاتم ذي التكلفة اليومية العالية.
وفي ما يتعلق بالوضع المثير للجدل في سورية فإن الاستسلام لهذا الاضطراب المخيف في ظل الشلل السياسي في محاولات إيجاد مخرج يبدو اقل الشرور.
ففي ظل افتراضنا أن هناك رفضاً للاجندات الخارجية التي تحاول جهات جيوبوليتكية (جغرافية سياسية) فرضها في محاولة لتقرير مستقبل سورية، ما الذي يمكننا أن نتأمله؟ يمكن أن يكون نوعاً لا يمكن تصوره، كوقف فوري للعنف والاقتتال، وتسوية مؤقتة قد تكون بين طرفين او اكثر بموافقة اطراف عدة للأزمة يصعب على الارجح تحقيق أهدافها، بحيث تتضمن التسوية تنازل بشار الاسد وتنحيه وفرض حظر شامل على شحن الاسلحة وتوريدها الى سورية، وظهور غير قابل للتصديق لدولة ديمقراطية دستورية تضمن حقوق الاقليات.
إن هذا أقرب ما يكون الى الحلول الأمنية، ويخفف من حالة اليأس من إيجاد أي حلول التي تسيطر على كثيرين رغم اننا نعرف يقيناً انه سيتم في نهاية المطاف العثور على حل مقبول. ومن منظور وعي الاطراف السورية المعنية فإن كثيرا من الدماء السورية قد اريقت ونزفت، ما يجعل كلا منها لا يقيم أي وزن أو احترام لأي عرض او اقتراح للمصالحة الوطنية والجلوس معاً على طاولة المحادثات. وحينما يأمل كل طرف في أنه سيحقق النصر الحاسم وغير المشروط على الطرف الآخر قريباً فإنه ليس من المثير للدهشة او المفاجأة ان تحقيق ذلك الامل سيكون على حساب تراكم المزيد من جثث الضحايا. فما الذي يمكننا عمله في ظل استمرار مسار في منتهى الواقعية وهو نزيف الدماء والمأساة اليومية من القتل؟
يقوم موقفي من مثل هذه الحالات من النزاعات الداخلية في الدول على معارضة ذرائع «الدمقرطة»، والاوضاع والجهود الانسانية التي يستخدمها البعض ستاراً للتدخل العسكري تحت علم «تحمل المسؤولية والحماية»، وتوظيف الليبرالية العقلانية لمساندة هذا التدخل، وهو ما يتحدث عنه المفكر والفيلسوف الاميركي نعوم تشومسكي ويسميه «الانسانية العسكرية».
وفي حالات مثل كوسوفو في ،1999 وليبيا في ،2011 وما يجري في سورية اليوم، فإن التداول في رد الفعل الدولي السلبي تجاه أفظع جرائم يتم ارتكاربها ضد الانسانية، وعمليات القتل الجماعي والمجازر، يعني ببساطة إنكار او إهمال حدود القيم والاخلاقيات العامة والحد الادنى من التضامن والتعاطف الانساني بكل ما فيها من عناصر وتفاصيل في عالم جعلت منه الاتصالات وتقنياتها قرية صغيرة لا يخفى فيها شيء، وهذه الحدود قد تصبح ملامح وضع جديد مريح إذا ما تحركنا لتحقيق بيئة صالحة لتسوية دائمة قبل ان يحترق بنا العالم لنتحول معه الى مقرمشات هشة.
وثمة قضايا هيكلية تتعلق بتركيب الدول ظهرت مع تبلور عالم ما بعد الحقبة الاستعمارية تجعل من الاختيارات السياسية في الدول التي تعاني من نزاعات وأزمات داخلية ورطة ومأساة حقيقية.
فمن ناحية المنطق النظري المطلق فإن هذه الافكار تعني ان من الحق الطبيعي لكل نظام او حكومة ان يبسط قوانينه وسيادته على السكان الذين يعيشون في رقعة إقليمه وفي اطار حدود بلده، باسم الحفاظ على الوحدة الوطنية ضد أي تمرد إو انفصال، وقمع كل حركة معارضة ونشاط معارض باسم مبادئ السيادة والوحدة الوطنية والحفاظ على الدستور والقانون، وهذا ما تدعمه بعض مواد ميثاق الامم المتحدة المتعلقة بسيادة الدول واستقلالها، والتي تحظر تدخل المنظمة الدولية في النزاعات الداخلية في الدول، وهذا يتناقض ويتعارض من الناحية النظرية والمنطقية مع الحق المشروع لكل شعب في تقرير مصيره ولا سيما الكتل السكانية الكبيرة ذات الأغلبية من عرق مختلف عن عرق بقية السكان.
وبالامل يمكننا التغلب على الشكوك والاحباط واليأس بالرغبة الحقيقية والجادة في استشراف الجهود لمستقبل أفضل يضع حداً للصراعات، ويعطي اهتماماً اكبر للقيم الانسانية والاخلاقية والروحية والدينية والتطور السياسي. وإذا ما فقدنا هذا الامل فذلك يعني الكارثة والطامة الكبرى التي ستعم عالمنا الذي نعيش فيه في عصر المعلومات التي تمكننا من إعادة تشكيل السياسات على اساس المعرفة في ما يتعلق بالقضايا الاساسية، مثل السلام والحروب والتغيرات المناخية.
ريتشارد فولك - مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ،1967وهو أكاديمي وأستاذ القانون الدولي في جامعة برنستون.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news