مشعل وإسرائيل.. وعناصر سلام محتمل
بعد الزيارة الحافلة بالمشاعر الجياشة التي قام بها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، لغزة، والتي شارك خلالها في احتفالات الذكرى الـ25 لتأسيس الحركة، انصبت التعليقات في اسرائيل والغرب على ملاحظاته التي قدم من خلالها الوجه الجريء والحقيقي لـ«حماس»، وأكد على تجسيد حلم استعادة فلسطين التاريخية من البحر المتوسط الى نهر الأردن شبراً شبراً، مهما استغرق ذلك من وقت. كما تحدى مشعل شرعية المشروع الصهيوني وقدم المسوغات والمبررات القانونية والسياسية والأخلاقية للحق الفلسطيني في المقاومة على اختلاف صورها، بما في ذلك مهاجمة المدنيين الإسرائيليين، لأن اسرائيل تستهدف المدنيين الفلسطينيين. وجاءت تعليقات مشعل وملاحظاته لتزيد قلق «المعتدلين والحمائم» الإسرائيليين الذين يدافعون عن حل الدولتين وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي 242. ولكن من الضروري الاستماع الى موقف «حماس» بالكامل قبل الوصول الى أي استنتاجات او القفز إلى أي نتائج.
ما قاله مشعل كان امام مسيرة حاشدة في غزة، كانت مخصصة للتأكيد على استمرارية النضال ضد اسرائيل بعد هجوم «عمود السماء» الذي شنته اسرائيل واستمر ثمانية أيام وعلى لسان قائد فلسطيني تجرأ علناً لأول مرة منذ 45 عاماً على أن تطأ قدماه ارضه المحتلة التي تعاني قمع الاحتلال وممارساته. وقد عاش مشعل سنوات طويلة في المنفى متنقلاً بين دول عدة في المنطقة، منذ ان كان في الـ11 من عمره بعد ان ولد في بلدة سلواد المجاورة للقدس تحت حكم الاردن. وفي 1997 حاول عملاء الموساد الإسرائيلي اغتياله في العاصمة الاردنية، لكن تم القبض على العملاء المتورطين ومقايضة الإفراج عنهم بمادة ترياق الحياة التي انقذت حياة مشعل من موت محقق، بعد رش مادة شديدة السمية في اذنه. وفي تصور مشعل وتفكيره فهو يعتبر عودته هذه الى غزة «ميلاده الثالث» فميلاده الأول كان ولادته الطبيعية في سلواد في 1956، وميلاده الثاني كان نجاته من محاولة اغتياله في العاصمة الأردنية 1997. كما ان ملاحظات مشعل ألقت الضوء على حقيقة صمود «حماس» وغزة امام العدوان الاسرائيلي العنيف، الذي تضمن غارات وحشية مكثفة قبل بلورة اتفاق وقف اطلاق النار، الذي تضمن تلبية بعض المطالب لقطاع غزة، منها التزام اسرائيل بالتوقف عن سياسة الاغتيال والقتل المستهدف، بعد اغتيال القائد العسكري لـ«حماس» احمد الجعبري. وبعد اغتيال اسرائيل للزعيم الروحي لحركة حماس في مايو 2003 الشيخ المقعد على كرسي متحرك، احمد ياسين، اصبح مشعل امام العالم القائد الفعلي والعام لحماس. ولعل اهم امر لابد من أخذه في الاعتبار هو ذلك التناقض بين اللغة النارية القوية الغاضبة التي تحدث بها مشعل في غزة ولغته المرنة والدبلوماسية والمعتدلة التي تحدث بها في سلسلة مقابلات صحافية وتلفزيونية غربية، حيث اشار بوضوح الى استعداد حماس للقبول بهدنه طويلة الأمد مقابل انهاء اسرائيل احتلالها الضفة الغربية والقدس الشرقية، والتسليم بحقوق الشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي. كما اوضح ان هذه الحقوق لابد أن تتضمن حق عودة ما بين أربعة وخمسة ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون في مخيمات بالمنفى، وانه لابد من الاعتراف بهذا الحق تماماً بالقوة والكيفية ذاتها التي تمنح بها اسرائيل حق العودة لكل يهودي، حتى أولئك الذين ليست لهم علاقة تاريخيه بفلسطين. وبالطبع فإن اصرار مشعل على حق العودة للاجئين الفلسطينيين ينطوي على تهديد حقيقي وكبير لإسرائيل وللصهيونية لأنه يعني ولو نظرياً تهديد وجود الأغلبية اليهودية في اسرائيل . وللفلسطينيين وحدهم حق لا يحتمل أي جدل الاختيار بين العودة او البقاء لتوطينهم في الدول التي يعيشون فيها. وفي تلك المقابلات مع صحافيين غربيين كان مشعل واضحاً في عرض استعداد «حماس» للمضي قدماً في جهودها لتحقيق هذه الأهداف الوطنية بشكل سلمي بعيداً عن العنف. وفي مقابلة مع شبكة التلفزيون الأميركية «سي ان ان» في 22 نوفمبر الماضي قال مشعل «اذا قبلت إسرائيل إطاراً عاماً للسلام فإننا مستعدون للعمل من اجل لتحقيق مطالبنا الفلسطينية بصورة سلمية بعيداً عن العنف والدم». غير ان مشعل أبقى كثيراً من الغموض يحيط بالمطالب الفلسطينية ولم يحددها ولم يبين كذلك ما اذا كان مسار السلام بين الجانبين سيفضي الى انهاء الاحتلال الإسرائيلي ام ان انتهاء هذا الاحتلال سيكون نتيجة حتمية ومنطقية لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. ومن جانب آخر قال مشعل انه حال تحقق الدولة وقيامها فإنه يمكن ادراج مسألة القبول بوجود اسرائيل والاعتراف بها على الأجندة السياسية. وابلغني نائبه موسى ابومرزوق في مناقشة بيننا في القاهرة ان مسألة نص ميثاق حركة حماس على التعهد بالقضاء على «الدولة الصهيونية» لم تعد قضية حقيقية وجدية. ويعتبر هذا الرجل الحاصل على الدكتوراه من جامعة لويزيانا صوتاً معتدلاً وذكياً في «حماس» يعكس في تفكيره التوجهات والمعتدلة ونزعة التعقل والواقعية في فكر مشعل. ولطالما تحدث مشعل في مناسبات عديدة عن «واقعية حماس» وأهمية توازن القوى في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويورد الصحافي الإسرائيلي، جدعون ليفي، في مقال له في «هآرتس» بعضاً من تقرير جماعة «بيتسيليم» الإسرائيلية الناشطة من اجل السلام انه منذ بدء اطلاق الصواريخ الفلسطينية من غزة على اسرائيل في 2001 وحتى اليوم فإن 59 إسرائيلياً قتلوا مقابل 4717 فلسطينيا. وعلى سبيل المثال منذ التوصل الى اتفاق وقف اطلاق النار في 2009 وحتى الهجوم الإسرائيلي الأخير في نوفمبر الماضي فإن 271 فلسطينياً قتلوا ولم يسقط قتيل اسرائيلي واحد.
وبطبيعة الحال فإن وسائل الإعلام الغربية تتبنى غالباً الرواية الإسرائيلية للأحداث في حال تجدد المواجهات، ولا تعترف في معظم الحالات بأن اسرائيل وليس الفلسطينيون، هي التي تبادر باختراق اتفاق الهدنة او الإجهاز عليه كل مرة. كما ان هناك مقاتلين ينتمون الى جماعات ومنظمات فلسطينية متطرفة يطلقون الصواريخ على اسرائيل في تحدٍّ لسياسة حركة حماس التي خففت كثيراً في السنوات الأخيرة من عمليات اطلاق الصواريخ وحددت ضوابط صارمة لها حسب قواعد الاشتباك.
ريتشارد فولك مقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين