الاحتجاجات ضدّ المالكي تهدد النظام السياسي
إيران تفقد السيطرة على العراق
يبدو أن استغلال رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، «قانون الإرهاب» لتهميش وضرب خصومه أدى إلى رد فعل قوى من الطائفة السنّية، الأمر الذي وضع الطائفة الشيعية في موقف الدفاع، فقد اشتعلت انتفاضة في المناطق السنية استمرت أسابيع عدة، ومع اشتعال ثورة مسلحة في سورية المجاورة، فإن هذه القلاقل تهدد النظام السياسي في بغداد، وربما أفقدت إيران سيطرتها على العراق.
وبما أن الدولة العراقية الجديدة تم بناؤها تحت سمعه وبصره، فقد استطاع المالكي جمع قدر كبير من السلطة في يده خلال سنوات. وجرت في البلاد عمليتان انتخابيتان منذ التصديق على دستورها الجديد عام 2005، تمخض كلاهما عن أغلبية شيعية افضت إلى حكومات ائتلافية بقيادة المالكي. وفي جوهره، فإن النظام الجديد، منذ نشأته، لم يشهد عملية انتقال حقيقية للسلطة. وأفرزت هذه الحقيقة، جنباً إلى جنب مع التوازن الطائفي الحرج دولة عراقية تتميز بالهشاشة.
ومن وجهة نظر المالكي، فإن الهدف الأول لن يتحقق من دون انجاز الثاني. ونتيجة لذلك، فقد حاول ليّ ذراع المعارضين في البرلمان، وتجاوزت سلطته الحدود الدستورية، كسيطرته على الأمن وقطاعات الطاقة على سبيل المثال.
وأثار المالكي خلال محاولاته تعزيز سلطته حفيظة رفاقه الشيعة، لاسيما منافسه السياسي الاول، الحركة الصدرية، التي يقودها الزعيم الشيعي، مقتدى الصدر.
وعلى الرغم من ذلك استطاع الشيعة لجم منافساتهم لبعض الوقت، لكيلا يفسحوا المجال امام السنّة لتقويض سلطاتهم الوليدة، وبعد أن تحرر المالكي من تحديات الفصائل الشيعية المنافسة له، جعل كل همه إضعاف قوة الطائفة السنّية.
في البداية، عمل المالكي على إضعاف الطائفة السنّية من خلال استغلال انقساماتهم، ومن خلال استقطاب مجموعات سنية مؤثرة داخل «ائتلاف دولة القانون» الذي يتزعمه. ومع ذلك، فقد كشفت الانتخابات الأخيرة في مارس 2010 أوجه القصور في تلك الاستراتيجية، فقد جاء الائتلاف في تلك الانتخابات في المرتبة الثانية، حيث تقدمت عليه «القائمة العراقية»، التي يترأسها رئيس الوزراء السابق إياد علاوي، بمقعدين، ذلك لان جزءاً كبيراً من السنّة دعم القائمة العراقية غير الطائفية. ولم يكن المالكي ليستطيع الحصول على ولاية ثانية لو لم يوافق على دمج دولة القانون مع «الائتلاف الوطني العراقي»، وهي مجموعة أخرى من الشيعة.
بعد تسعة أشهر من المفاوضات لتشكيل حكومته الثانية، أدرك المالكي أن السنّة لايزالون اقوياء، لانهم في المقام الأول اصطفوا مع القائمة العراقية، المجموعة الوطنية غير الطائفية التي تجد قبولاً كبيراً في انحاء البلاد، الامر الذي يشكل تحدياً لأجندة المالكي الطائفية. وعلى الرغم من انه لم يفِ بوعوده المبذولة لـ«العراقية» مقابل انضمامها لحكومته، تجنب المالكي المواجهة معها إلى حد كبير، حتى بعد رحيل القوات الاميركية في نهاية عام 2011. وفي اليوم التالي لانسحاب الجيش الاميركي، اتهم المالكي نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، المنتمي الى الطائفة السنية، بتدبير هجمات واسعة النطاق في البلاد، وأمر باعتقال العديد من أعضاء الأمن التابعين للهاشمي، تحت قانون مكافحة الارهاب. ولجأ الهاشمي إلى إقليم كردستان الذي يتمتع بالحكم الذاتي قبل ذهابه إلى منفاه الاختياري، حيث ظل يقضي معظم وقته في تركيا، لأن القضاء العراقي اصدر عليه حكماً غيابياً بالإعدام.
وبسبب الانقسامات داخل القائمة العراقية، وعدم تمتع الهاشمي بدعم واسع من الطائفة السنّية، فإن حادثة اتهام الهاشمي لم تثر رد فعل قوياً من القائمة العراقية أو المجتمع السني. ولعل حصول الهاشمي على ملاذ آمن في كردستان فاقم التوترات بين الشيعة والاكراد (ازداد السخط بين الشيعة والأكراد بشكل مطرد في الأشهر التي تلت، حيث يتنافس الجانبان الآن من أجل السيطرة الأمنية على منطقة كركوك المتنازع عليها والغنية بالنفط)، ونتيجة لذلك، اصبح المالكي الآن يقاتل السنة والأكراد في آن واحد، ما يجعل حلفاءه الشيعة العراقيين وأنصاره الإيرانيين لا يحسون بالارتياح لحكمه. في أوائل عام 2012، هددت الحركة الصدرية بالوقوف إلى جانب الأكراد والسنة الذين كانوا يناقشون التصويت بحجب الثقة عن رئيس الوزراء.
وبطبيعة الحال، فإن دوافع مقتدى الصدر تتمثل في تطلعه للسيطرة على موقع المالكي كقيادي سياسي للشيعة، الا انه من منطلق مصلحة الطائفة الشيعية، لم يستمر في تهديده. وتدرك إيران وشيعة العراق أنه من الصعوبة استبدال المالكي دون الإخلال بالنظام السياسي الذي يسيطر عليه الشيعة.
وبالمثل، فإن الأكراد لديهم ايضاً قضايا مع المالكي، فمثلهم مثل الشيعة، لديهم نزاعات حدودية مع السنّة، إلا أن المالكي صار يدفع باتجاه دولة مركزية قوية تحد من رغبتهم في مزيد من الاستقلال الذاتي، ومع ذلك، فانهم يتفادون مواجهة المالكي بشدة حتى لا يعملوا بطريقة غير مباشرة على تعزيز موقع السنة.
ويدرك المالكي جيداً تحفظات الشيعة والأكراد في ما يتعلق بتحديهما له، لكنه بالغ في تقديراته عندما اختلف مع وزير ماليته، رافع العيساوي.
ففي 19 ديسمبر الماضي، بدأ المالكي في اعتقال أعضاء الأمن الخاص بالعيساوي بتهمة الإرهاب، وعلى العكس من الهاشمي، ينحدر العيساوي من قبيلة بارزة مقرها الفلوجة ـ مركز التمرد السني 2003 حتى 2007، ولهذا أثار استهداف المالكي للعيساوي احتجاجات واسعة النطاق من الطائفة السنية.
ثمة عامل آخر في رد فعل السنّة يتمثل في الانتفاضة السنية في سورية المجاورة. (وهناك بعض الادلة على وجود تنسيق على مستوى معين عبر الحدود بين السنة في البلدين)، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى سياسات المالكي المثيرة للجدل.
الاحتجاجات الحالية في العراق هي عبارة عن انتفاضة للسنّة منذ خمس سنوات، التي افقدت المالكي توازنه.
وفي المقابل عرض المالكي الافراج عن 700 امرأة معتقلة من الطائفة السنية قضين في السجن سنوات عدة، وشجع هذا التراجع الذي أبدته الحكومة، أهل السنة، الذين صاروا يدعون الآن إلى إجراء انتخابات مبكرة، وهو الخيار الذي يدرسه الشيعة كوسيلة للخروج من الأزمة. ومع ذلك، فمن غير المرجح ان ينزع إجراء الانتخابات فتيل الأزمة، لأن هدف المعارضين للشيعة وإيران يتمثل في إزالة النفوذ الإيراني من العراق. وبشكل عام، فإن الانتخابات العراقية دائما ما تخلق انقسامات عرقية وطائفية عميقة، لأنها تتمخض عن مجالس تشريعية متشظية للغاية، ونظراً لظهور نذر الحرب الطائفية في سورية، فإن مردود الانتخابات المقبلة سيكون أكثر استقطاباً.
قاطع السنّة أول انتخابات في البلاد عام 2005، وانقسموا على أنفسهم خلال تصويت عام 2010، لكن من المرجح أن يكونوا أكثر توحداً في المرة المقبلة، وهو ما يعني أن تشكيل حكومة ائتلافية سيكون أكثر صعوبة. وعلاوة على ذلك، فإن الأكراد يريدون استخدام هذا الانقسام الطائفي للمطالبة بمزيد من التنازلات بشأن القضايا المتصلة بوضعهم المستقل، وليس من المرجح ان تقبل الطائفة السنية حصتها الحالية من السلطة السياسية، ما يزيد من مخاطر العنف. وهناك تقاطع غريب في المصالح بين القوى السنية السورية، والجهاديين الدوليين، وبعض الدول العربية ، فكل واحد من هؤلاء لديه أسبابه الخاصة في إضعاف النفوذ الإيراني في العراق.
تدرك إيران جيداً حجم المخاطر التي تحيق بها في العراق، ففي الوقت الذي تحاول طهران الحفاظ على نفوذها في سورية بعد رحيل الأسد، فإنها ايضا تريد ألا تفقد الأرض التي كسبتها في العراق، ولهذا يرى الايرانيون انهم بحاجة لحماية النظام الذي يهيمن عليه الشيعة، والذي يهدده في الوقت الراهن المشكلات التي خلقها المالكي اكثر من الاحتجاجات التي يثيرها السنة.
وعليه، فإن استبدال المالكي يتطلب أيضا اتفاقاً جديداً لتقاسم السلطة بين الشيعة، الذي من شأنه ان يؤدي إلى اقتتال داخل الطائفة، واضعاف موقفها في البلاد، لذلك، فليس لدى ايران خيار سوى حشد مختلف الفصائل الشيعية وراء المالكي. وفي الوقت الراهن على الأقل، تشعر إيران بأنها مسؤولة عن حل الأزمة العراقية سياسياً، ومنع الوضع من الانزلاق نحو العنف. ويتطلب هذا الحل ان تكون الكتلة السياسية الشيعية متماسكة وموحدة، فضلا عن تقديم تنازلات للسنة لكيلا يقوضوا هيمنة الشيعة. وفي حين ان ذلك ليس مستحيلاً، فمن الصعب ان تستطيع ايران انجاز هاتين المهمتين، لان تقديم تنازلات كبيرة، مثل تغيير قوانين مكافحة الارهاب واعطاء السنة دوراً أكبر في صنع السياسات، سيضعف الشيعة، في حين أن التنازلات المحدودة تعمل على تقوية مركز مجتمع الأقليات، ولهذا، فإن فرص إيران في إدارة الوضع السياسي تكاد تكون معدومة. وهذا يعني أن العراق قد يواجه موجة جديدة من الصراع الطائفي، وبغض النظر عن كيفية تطور الوضع، فمن المرجح ان يضعف موقف إيران في العراق.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news