«أطفال التبني».. ضحايا حرب باردة جديدة بين روسيا وأميركا
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «إذا صفعك أحدهم، عليك أن تردّها له، وإلا فإنك ستواصل التعرض للصفع».
وكان يتحدث قبل توقيعه قانون ديما ياكوفليف، الذي حظر بموجبه تبني الأيتام الروس من قبل آباء أميركيين. وكانت الصفعة الأميركية التي رد عليها الرئيس بوتين قانوناً جديداً يمنع المسؤولين الروس المتورطين في انتهاكات لحقوق الانسان من دخول الولايات المتحدة أو التملك فيها. ويركز هذا القانون، المعروف باسم «قانون ماغنتسكي»، بصورة أساسية على المسؤولين المتورطين في مقتل سيرغي ماغنتسكي، المحامي الشهير الذي توفي مسموماً عام 2009.
حالة إنسانية هزمت قانون حظر التبني أليشا وستيفن إلين كانا اثنين من ضمن 748طفلاً تم تبنيهم من قبل الأميركيين عام 2012، ويشكلان نقطة صغيرة ضمن 60 ألف طفل تم تبنيهم في أميركا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. وبعد هذا القانون يبدو أنهما سيكونان آخر أطفال التبني حتى إشعار آخر. وحتى قبل هذا القرار الجذري كانت الأمور تزداد صعوبة، ويقول الصحافي الاميركي روبرت كورنويل إنه تبنى مع زوجته طفلاً من أوكرانيا، ولكنه كان من عرقية روسية عام 1993. ويضيف أن تبني الطفل من الوكالة المتخصصة بذلك الى حين عودة العائلة مع الطفل ستاس الى واشنطن استغرق ثمانية أشهر. وبعد مرور نحو عقدين من الزمن على ذلك قررت عائلة الينز تبني الشقيقين اليشا وستيفن، اللذين كانا يقيمان في ميتم، بعد انتحار والدهما وإدمان الأم على الكحول. وبعد انتهاء معاملة التبني في روسيا تم تشخيص سرطان الغدد اللمفاوية لدى اليشا. وكان بإمكان عائلة الينز التراجع عن هذا التبني، لكنهما كانا قد حسما أمرهما على الصعيد العاطفي بشأن الطفلين، وقال الوالد: «لم نفكر في التراجع مطلقاً». ولكن ظهرت تعقيدات أخرى، فقد كانت اليشا تتلقى علاجاً كيماوياً، وتعين على عائلة الينز إقناع الروس أنهما يستطيعان تأمين العلاج لها في أميركا. وحتى قبل قرار الحظر، كان يتوجب على عائلة التبني الأميركية أن تقوم برحلتين أو ثلاث إلى روسيا، بما فيها فترة التجريب التي تمتد الى30 يوماً، بعد أن تكون المحكمة قد جعلت التبني رسمياً. وفي عام 1993 انفقت العائلة 15 الف دولار على العملية، بما فيها الرسوم وتكاليف السفر وتكاليف أخرى. وبحلول عام 2012 كانت عملية تبني طفل من روسيا تكلف أكثر من 50 الف دولار. وهو مبلغ كبير لا يملكه محدودي الدخل، الذين لا يستطيعون الحصول على عطلة من العمل. وبالنسبة لصحة اليشا كان من المفروض التحرك على نحو سريع، وكان مستشفى جورج تاون يقدم برنامج علاج. وفي مارس 2012 سافرت عائلة الينز كي تأخذ طفليها بالتبني، وبعد مرور أسبوعين عادا الى البيت. وكانت اليشا قد خضعت الى جولتين من العلاج الكيميائي في روسيا وبانتظارها خمس جولات أخرى في جورج تاون، ولكن على الأقل فقد تمكنوا من هزيمة قانون حظر التبني. وشعر والد اليشا بالتبني بالحزن على هذا القانون، وهو يقول: «تحدث مثل هذه القوانين التي تصدر في كل مكان عدداً من المشكلات يفوق ما يمكن أن تحله». وينطوي هذا القانون على اثار سيئة على آلاف الاطفال الذين يمكن أن يعيش 99.8٪ منهم في اميركا حياة أفضل مما يجدون في روسيا. ويضيف «مقابل كل قصة يمكن أن يظهرها الروس عن آباء اميركيين يغادرون روسيا بأطفالهم من التبني، يمكننا ان نظهر خمس أو ست قصص عن آباء مثلنا يقومون برعاية طفل مريض من خلال معالجته من مرض السرطان». وحالياً تبدو اليشا في حالة تعافي من السرطان، ويقول والدها بالتبني: «لا أصدق أننا تخلّصنا من المتاعب».
|
وشعرت روسيا بالغضب من التصرف الأميركي الذي اعتبرته تدخلاً في شؤونها الداخلية، وقررت أن ترد عليه بأكثر من «مجرد السن بالسن».
وإضافة الى وضع قائمة بعدد المسؤولين الأميركيين الممنوعين من دخول روسيا، أخذ الكرملين خطوة أخرى زيادة على ذلك، وحظر تبني الأطفال الروس من قبل الأميركيين. واعتبرت هذه الخطوة واحداً من أكثر التشريعات التي أصدرها بوتين إثارة للجدل، خلال وجوده في سدة الحكم منذ 12 عاماً. ويقول عدد من النقاد إن صفعة بوتين الانتقامية، تبدو كمن يطلق الرصاص على قدميه كي يثبت وجهة نظره.
قانون غير إنساني
وعلى الرغم من موجة الغضب العام على هذا التشريع، يواصل المسؤولون الروس إبقاء هذا الحظر. وقبل بضعة ايام، ذهب مفوض روسيا لحقوق الاطفال، بافل استاخوف، إلى ما هو أبعد من ذلك، عندما قال إنه يتعين على الدولة ألا ترسل اطفالها الى ما وصفه «آلام الموت» في الولايات المتحدة. وأضاف استاخوف في مقابلة مع صحيفة «روسيسكايا غازيتا» الروسية، أن 30٪ من الاطفال الذين يتم تبنيهم يعيشون حياة سعيدة في الولايات المتحدة، وأن العديد منهم يجري بيعهم من قبل آبائهم بالتبني. وبدل أن يصور الحظر باعتباره خطوة انتقامية سياسية، حاول استاخوف الادعاء أن الأطفال يعيشون حياة في دور الايتام الروسية أفضل مما يجدونه لدى عائلاتهم بالتبني. ويوجد نحو 100 ألف يتيم في روسيا، إضافة إلى 200 ألف طفل لايزال آباؤهم على قيد الحياة، لكنهم يعيشون تحت رعاية المؤسسات التي ترعى الاطفال. وتبنت الأسر الأميركية نحو 1000 طفل روسي في عام 2011.
وعلى الرغم من أن التشريع الذي أصدره بوتين يؤثر في جزء صغير فقط من أيتام روسيا، إلا أن استجابة العامة له كانت كبيرة جداً. وعلى الرغم من أن معظم الروس يقولون إنهم يدعمون القانون، إلا أن أصواتا احتجاجية من الطبقة الوسطى المدنية التي تشكل الاقلية، أظهرت أن بوتين يواصل إثارة غضب هذا الجزء الصغير، لكنه المهم ،من الشعب الروسي.
تظاهرات
وخرجت تظاهرة احتجاج على القانون، الشهر الماضي، جذبت عشرات الآلاف من الروس، وأثارت دهشة حتى قادة حركة الاحتجاج في الشارع، والتي تنامت في روسيا خلال العام الماضي. ومع عودة بوتين إلى الكرملين، وعدم وجود أية إشارات تدل على أن المحتجين يستطيعون إنجاز أية تغييرات حقيقية، بدأت أعداد المحتجين تتناقص في التظاهرات، وتراجع السخط لدى ما يعرف بـ«الطبقة المبدعة» في موسكو الى حالة السكون. ولكن قانون التبني أثار غضب الروس من جديد، ودفع البعض إلى الشوارع، مع أنهم لم يكونوا قد خرجوا من قبل. وقالت مارينا ليبمان، البالغة من العمر 27 عاماً والتي كانت مع ابنها البالغ عمره عامين: «جئت إلى هنا للمرة الاولى، لأن هذا القانون يعتبر ضرباً من الجنون». وأضافت ماريا، وهي محللة سياسة في مركز كارينجي في موسكو «إنها قضية أخلاقية صرفة. والعديد من الناس يرون هذا القانون غير إنساني وقاسياً».
في المقابل، حاول أنصار بوتين إعادة اكتساب الأرضية الاخلاقية العليا، ودعوا الحادثة بـ«مسيرة بائعي الأطفال»، واتهموا منتقدي القانون بأنهم يفتقرون إلى الوطنية. وكتب أندري ايساييف من حزب «روسيا المتحدة» بزعامة بوتين: «جميع أعداء سيادة روسيا كشفوا عن أنفسهم، باعتبارهم أنصاراً صلبين للتبني الاميركي. إنهم يتظاهرون من أجل التصدير غير المنظم لأطفال روسيا إلى أميركا».
ويعتبر هذا القانون الجديد الذي يمنع تبني اطفال روسيا في أميركا مجرد واحد من العديد من القوانين «المناهضة للأميركيين» جرى إصدارها أخيراً، مثل طرد ذراع منظمة «يو إس ايد» للتنمية التابعة للولايات المتحدة، واعتبار المنظمات غير الحكومية التي تتلقى أموالاً من الخارج «عملاء للأجانب». ويقول محللون إن الشعور المعادي لأميركا يرجع إلى تصور حقيقي بين المتشددين من النخبة الروسية، مفاده أن واشنطن تستخدم المنظمات غير الحكومية والأدوات الاخرى لإثارة السخط في روسيا من ناحية، و كأداة لحشد الدعم بين الأغلبية من الروس ضد حركة الشارع المؤلفة من المدنيين أبناء الطبقة الوسطى. وكتبت صحيفة «فندوموستي» في افتتاحية حديثة لها «ظهر شعورنا المناهض لأميركا عام 2012 نتيجة محاولة الكرملين التوضيح للشعب الروسي أسباب ظهور تظاهرات احتجاج عارمة في العاصمة موسكو والمدن الاخرى الكبرى. ويبدو أن سلوك بوتين المناهض للأميركيين يستند إلى جذور سياسية داخلية مشابهة»
ونظراً إلى قيام التلفزيون الحكومي بروي العديد من قصص إساءة معاملة أطفال التبني من قبل الآباء الاميركيين، انبرى معظم الروس إلى تأييد حظر تبني الأطفال الروس. وقالت ليبمان إن «حركة الاحتجاج المتزايدة أجبرت بوتين على تحريض الروس المحافظين أكثر ضد الروس المعتدلين. وكان ذلك ناجحاً، بيد أنه حرمه من الصورة التي قدم بها نفسه سابقاً، باعتباره قائداً لكل الروس».
مشاعر اشمئزاز
وانتشرت مشاعر الاشمئزاز بسبب قانون حظر التبني، وقال رئيس تحرير صحيفة «ايكو مسكوفي» الليبرالية، اليكسي فندكتوف، إنه تحدث مع العشرات من أعضاء البرلمان الروسي، وأسرّ معظمهم له بأنهم على الأقل تساورهم الشكوك إزاء هذا القانون، ولكنهم صوتوا لصالحه نزولاً عند مصلحة الحزب ووحدته. واستغل رسام الكاريكاتير السوفييتي الاسطوري يوري نورستين مراسم متلفزة لتسليم جوائز، كي يحتج على قانون الحظر، وعلى وفاة ماغنتسكي الذي قال بوتين عنه انه لم يتعرض للتعذيب أو المعاملة السيئة.
وقال نورستين: «قال السيد بوتين إن ماغنتسكي توفي نتيجة سكتة قلبية، ولكني أعتقد انه مات نتيجة لانعدام الرحمة في قلب بوتين». وضاعت بقية الكلمات التي قالها الرجل عندما صرخ جميع الموجودين في الصالة قائلين «برافو».
وثار قلق كبير على الأطفال أصحاب الحاجات الخاصة، الذين كان يتم تبنيهم من قبل عائلات أميركية، بيد أنهم يكافحون الآن من أجل «آباء تبني» في روسيا نفسها. وقال رئيس جمعية المصابين بمرض التخلف العقلي او الجسمي، سيرغي كولسكوف: «الطريقة الروسية في التعامل مع الاطفال المعاقين متخلفة 70 الى 100 عام عن الدول الغربية». وأضاف «عادة ما يتم ايداع العديد من الأطفال المعاقين الروس في مؤسسات خاصة، لأن والديهم لا يحصلون على المساعدة والدعم المناسبين اللذين يحتاجان اليهما لتربيتهم في المنزل». ولا يتبنى الآباء الروس أطفالاً معاقين، ويبقى خروجهم من الدولة الروسية هي أفضل طريقة لهم كي يعيشوا حياة عادية.
ولتحفيز الروس على تبني أطفال يعانون الإعاقة، تخطط الحكومة لتقديم حوافز مالية حيث ستقدم 10 آلاف روبل للعائلة التي تتبنى طفلاً معاقاً (اي 2000 جنيه إسترليني)، وقال كولسكوف إن «إحدى الفوائد المتوقعة من الحظر يمكن أن تتمثل في أن تبدي روسيا المزيد من الانتباه إلى مشكلاتها». ويضيف «تتحدث النخبة أخيراً عن اليتامى والمعاقين، قبل أن تهتم بهم الحكومة والمعارضة الليبرالية. وحتى الآن، لا يتعدى الامر أكثر من الحديث فقط، ولكن ما نريده هو الأسلوب الممنهج لإحداث تغيير في كل شيء، ولكن حتى الحديث يظل أفضل من لا شيء».