«الربيع العربي» يزيح العراق عن خريطة الإعلام
اختفى العراق على نحو كبير من خريطة الإعلام، خلال السنوات الخمس الماضية، وأصبحت فنادق بغداد التي كانت يوماً تعج بالصحافيين، فارغة بعد أن تركها المراسلون بحثاً عن قصص أحدث، حيث الحرب الأهلية في سورية، وليبيا ومصر. ولايزال عنف المتطرفين متواصلاً، ولكن العالم الخارجي وصل إلى قناعة بأنه يقبل بهذا الوضع سمةً طبيعية في المشهد العراقي، مثل الثلوج في سيبيريا. فالمجازر مثل قيام تنظيم «القاعدة» بقتل 48 جندياً سورياً وتسعة حراس حدود عراقيين في غرب العراق، لم تثر الكثير من الاهتمام، كما أن غزو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في التاسع عشر من مارس 2003 لم يجذب اهتمام العالم للعراق، بيد أن التقارير والتعليقات السياسية المتعلقة تأتي على ذكر حرب العراق على أنها حدث من التاريخ، مثل العدوان الثلاثي.
وقررت وسائل الاعلام الغربية عام 2008 أن الحرب وصلت إلى نهايتها، أو على الاقل، أنه ليس هناك من أحداث جديدة تقع. فقد تناقصت الإصابات في صفوف الجيشين الأميركي والبريطاني على نحو كبير جداً من ذروة هذه الإصابات في شهر يوليو 2006. واقنع الجنرال ديفيد بيترايوس وإدارة الرئيس جورج بوش الأميركيين أن الزيادة في تعداد القوات الاميركية التي تم إرسالها إلى العراق، وتحول المسلحين السنة الى جانب الجيش الاميركي، من شأنه أن يجنب الاميركيين الهزيمة، ويساعدهم على الخروج من العراق بشيء يشابه النصر. ولم يستطع اليمين تصديق أن الولايات المتحدة فشلت في أهدافها الأصلية للحرب، وأما اليسار فتساوره الشكوك في أن انسحاب الاميركيين كان تكتيكاً ذكياً للتغطية على استمرارية حكم واشنطن للعراق.
وكان لدى مراسلي الصحافة الأميركيين فكرة جيدة عن الوضع الحقيقي، بيد أنها كانت ترفض من قبل رؤساء التحرير في نيويورك وواشنطن. واشتكى لي أحد الصحافيين بأن «المشكلة هي أن غرف الاخبار في وطننا توجد بها مجموعتان من العقليات، الأولى من محبي إثارة الحرب، والثانية من محبي السلام»، ولا يوجد هناك الكثير بينهما. وقال السياسي العراقي أحمد الجلبي الذي احتفى به الاميركيون بداية، ومن ثم رفضوه: «المشكلة في العراق أن الاجندة تحددها ليس مجريات الأحداث، وإنما بما يتخيل الاميركيون حدوثه».
وبقيت معظم السنوات الخمس التي تلت غزو العراق في فندق الحمراء الذي يقع على نهر دجلة بضاحية الجادرية في بغداد، ولم يكن هذا المكان مريحاً. ويبدو أن أصحاب الفندق قد أخذوا عهداً على انفسهم بعدم إنفاق أية أموال من زوار الفندق الذين كان معظمهم من الصحافيين، على ترميم الفندق. وكان مؤلفاً من مبنيين تفصلهما بركة سباحة. وأصبح أحد المبنيين غير مأهول عام 2005، عندما قاد مجموعة من الانتحاريين سيارات مملوءة بالمواد المتفجرة وحاولوا اختراق الجدار المحيط بالفندق. ونجم عن ذلك مقتل 11 شخصاً، معظمهم من العاملين في الفندق او من أقربائهم. وانتقلت الى المبنى الاخر الذي كان يخدم بواسطة مصعدين، تعطل أحدهما قبيل أن آتي الى المبنى، والثاني يعمل ببطء ولا يقف إلا في الطابق التالي للطابق الذي مكثت فيه.
وعدت إلى فندق الحمراء، الشهر الماضي، لأجده مغلقاً، إذ تعرض لتفجير ثانٍ عام 2010 عندما انفجرت فيه سيارة عند المدخل. ولاتزال المباني القريبة من الفندق المدمرة تبدو مثل الخرائب، إضافة إلى بقايا سيارة مدمرة لم يكلف أحد نفسه عناء ازالتها من المكان. ولطالما أحببت رجال الأمن الذين كانت مهنتهم تنطوي على مخاطر كبيرة عند تفتيش السيارات الداخلة الى الفندق. وكنت سألت أحدهم ذات مرة لماذا يقوم ثلاثة منهم دائماً بتفتيش سيارتي، فقالوا لي بسرور: «لأننا ندرك انك لست من الانتحاريين مفجّري السيارات. وإذا كنا نشك في أن سيارة ما خطيرة يقوم واحد فقط بتفتيشها، حتى لا نقتل جميعنا مرة واحدة»، وأضاف أحد الحراس أنه في مثل هذه الحالات فإنه يحمل مسدسه الى جانبه حتى يستطيع إرسال رصاصة إلى رأس السائق اذا تأكدت شبهاته. وقال إنه ربما لديه نصف ثانية قبل أن يدرك المفجر أنه قد تم اكتشافه، ويقوم بتفجير العبوة الناسفة.
وخلف مدخل الفندق ثمة صف من الاشجار التي كانت ذات يوم مملوءة بالطيور المغردة، لكن يبدو أنها قد تركت المكان. وكان باب الفندق مفتوحا، وفي المدخل المؤدي إلى الصالة الرئيسة تجمّع ثلاثة أشخاص حول مكتب وكانوا يديرون شركة توصيل، ونتيجة لانقطاع الكهرباء كان الجو شبه معتم. وكان منهم شخص واحد فقط من ضمن طاقم العاملين الذين أعرفهم، والذي قال إنه يعرفني. وشرح لي أنه ينتظر الحصول على تأشيرة دخول الى الولايات المتحدة. وأضاف «أريد المغادرة بأسرع وقت ممكن»، وأضاف «أشعر بالضجر من الانتظار»، وفي الخارج كانت بركة السباحة فارغة إلا من قليل من المياه الراكدة الخضراء المملوءة بالقاذورات.
ولديّ ذكريات جميلة في فندق الحمراء والصحافيين الذين عاشوا هنا، ولطالما كانت هناك اتهامات وشجب «لصحافة الفندق» في بغداد، والتي كانت تعني أن الصحافيين لا يغادرون المكان الذي يقيمون فيه. ولكن ذلك لم يكن صحيحاً لسبب بسيط، مفاده ان الصحافيين الذين وجدوا أن العراق مكان خطر جداً أخذوا حذرهم عن طريق البقاء خارج الدولة. ولهذا كانت تحركاتنا حذرة ومقيدة، لأن الغرباء كانوا يعاملون بعدوانية وتدور الشبهات حولهم.
وكانت لديّ سيارتان، حيث أركب في المقعد الخلفي للأولى، في حين ان الثانية كانت تتبعنا لنعرف عما اذا كنا متبوعين أم لا. ولكي أجعل من الصعب على الاخرين أن يعرفوا بأني أجنبي، لكن دون أن أعطي الانطباع بأني أحاول أن أخبئ شيئاً، كنت أعلق قميصاً داخل السيارة، بحيث أنه يخفي وجهي، ويجعلني أبدو بأنني قادم من مكان غسيل الملابس، أو على الاقل كنا نتمنى ذلك.
ويبدو أن خطر القتل أو الخطف يعقد من الحركة، ولكن التحرك بحماية القوات الاميركية والبريطانية له مخاطره ايضاً، اي في ما يتعلق بمدى نزاهة الاخبار التي نكتبها. ولم يكن من الواضح بالنسبة لي في ذلك الوقت أن المراسلين في العراق استفادوا من حقيقة انه لا الحكومة ولا المسلحون كانوا يتبنون الصحافيين الى جانبهم، مقارنة لما حدث بعد سنوات عدة في ليبيا وسورية، حيث أصبح المسلحون يمتلكون مهارة عالية في التعامل مع الإعلام.
باتريك كوكبيرن - مراسل لصحيفة الإندبندنت في الشرق الأوسط