نجومية أردوغان تعززت زعيماً سياسياً لا يمكن تجاهله. أ.ف.ب

تركيا تحقق طموحاتها في الشرق الأوسط

يمكن بكل بساطة وصف السياسة الخارجية لتركيا بشأن الشرق الأوسط بأنها «مشوشة»، وبغض النظر عن الموقف التركي مما يجري في سورية، وما كان عليه تجاه ليبيا، فإن المصدر الاساسي لهذا التشوش هو اخطاء أنقرة ذاتها. وكانت هناك أوقات تصدر فيها النجاح في الوصول الى الدول العربية والاسلامية دبلوماسياً أولوية السياسة الخارجية التركية، ثم تحدثنا عن التحول في صيغة الإدراك، حيث انهمكت انقرة في اعادة وضع موقعها السياسي بما يعكس الضرورات الاقتصادية والتغيرات الثقافية التي طرأت على مجتمعها، الذي سيطر عليه نقاش يتمحور حول فكرة تركيا بين الشرق والغرب والذي سرعان ما تم حسمه بنجاح على ايدي قادة حزب العدالة والتنمية بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، حيث انتصرت الخلفية التاريخية لتركيا.

غير أن السياسة الخارجية الخالية من الاخطاء أتاحت لتركيا تصنيف نفسها على أنها جسر بين الشرق والغرب. وفي واقع الحال كان هناك رابط بين التأثير المتنامي لتركيا في العالمين العربي والاسلامي والتحدي غير المسبوق من جانب أردوغان وحكومته لإسرائيل وانتقادهما اللاذع للسلوك الاسرائيلي العدواني والعنيف تجاه الفلسطينيين ولبنان وسياسة التحريض من تل ابيب ضد سورية وإيران.

وكانت عودة تركيا الى جذورها الشرقية والاسلامية عملاً صائباً ومثيراً لاهتمام الولايات المتحدة التي لم تبد أي رد فعل سلبي. فبكل بساطة لم يكن بإمكان واشنطن ان تعزل انقرة او تلغي دورها وتأثيرها. كما أن هذا الامر ينطبق على اسرائيل التي اطلق بعض مسؤوليها تصريحات نارية مضادة لتركيا، لكنها لم تصنف بأنها ضمن السياسة الخارجية الاسرائيلية. ولا يخفى على احد ان الصلف والغرور السياسي والدعم الاميركي الكبير مادياً ومعنوياً هما الركيزتان لاستمرار السياسة العدوانية لاسرائيل والقائمة على الذراع الطويلة في المنطقة، وهنا لابد من تذكر حادثين الاول ذلك التصرف الصبياني من نائب وزير الخارجية الاسرائيلي (السابق) داني إيالون الذي تعمد تحقير السفير التركي في تل ابيب أحمد اوغوز شيليكول، حينما استدعاه الى مقر وزارة الخارجية في يناير ‬2010 وأجلسه على اريكة منخفضة، ليبدو أيالون في وضع اعلى منه ثم طلب من الصحافيين ابراز هذه الإهانة والتركيز عليها. والحادث الثاني هو هجوم بحرية الجيش الاسرائيلي على السفينة التركية «مافي مرمرة» في مايو من العام ذاته، والتي تحمل مساعدات انسانية لقطاع غزة، ما اسفر عن مقتل ثمانية اتراك وتاسع اميركي من اصل تركي بدم بارد. وكان من الطبيعي ان يبادر كاتب وناشط اسرائيلي مثل يوري افنيري الى وصف السلوك الاسرائيلي بـ«الغباء»، لا سيما ان تركيا كانت حتى وقت قريب من اهم حلفاء اسرائيل التي كانت ترغب في ان تواصل غباءها بأن تبعث برسالة الى انقرة انها ستواصل نهجها في التصدي لسياسات اردوغان الطموحة.

وتمثل الغباء الحقيقي في سوء التقديرات والحسابات الاسرائيلية التي أخفقت في أن تأخذ في الاعتبار ان السلوك الاسرائيلي لا يمكن إلا ان يؤدي الى الاسراع في تحول الموقف السياسي التركي. كما ان حقيقة فقدان الولايات المتحدة تأثيرها في الشرق الاوسط ساهمت في سرعة ظهور تركيا كدولة قوية التأثير عربياً واسلامياً، وتعزيز نجومية أردوغان زعيماً سياسياً له اهميته التي لا يمكن تجاهلها، والتي برزت من خلال رد فعله المحسوب على السلوك الاسرائيلي، فقد اشترط لاي جهد لإعادة الامور الى طبيعتها بين الجانبين التركي والاسرائيلي اعتذاراً اسرائيلياً واضحاً وعلنياً لا لبس فيه عن الهجوم على السفينة «مافي مرمرة» وتقديم تعويضات مالية مرضية لذوي الضحايا وعائلاتهم، إضافة الى انهاء الحصار المفروض على قطاع غزة. وكان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يرغب في حقيقة الامر الاعتراف بأي خطأ وتقديم أي اعتذار، اضافة الى انه لم يكن يتمتع بتأييد او تعاطف من الادارة الاميركية، بسبب تحديه الرئيس باراك أوباما وتوتر العلاقات بينهما، بسبب الخلافات حول عملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي. وحينما فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية التركية في يونيو ‬2011، كانت ثورات الربيع العربي في مراحلها المبكرة، وكانت الآمال الكبار معقودة على ظهور حركات شعبية قادرة على التغيير في دول عربية تحكمها انظمة دكتاتورية فاسدة يدعمها الغرب. ولم يغب عن ذلك الحزب مكانة تركيا في البناء السياسي التقليدي للشرق الاوسط، وكذلك لم تغب عنه حقيقة ان تركيا عضو مهم في حلف شمال الاطلسي (الناتو) الذي بدأ حرباً ضروساً على ليبيا لإسقاط نظام الرئيس السابق معمر القذافي بموجب قرار مجلس الامن الدولي ‬1973. صحيح ان تركيا قاومت الحملة العسكرية للحلف في بداية الامر، لكنها سرعان ما ساندتها وباركت نتائجها السياسية. وجاءت الازمة في سورية لتدفع تركيا الى التعبير عن طموحاتها في الانتصار لصالح العدالة والاخلاقيات في صراع غير متكافئ بين نظام يتعامل بقسوة ودموية بالغة مع تظاهرات شعبية تطالب بالإصلاح والتغيير. كما انه لم يكن باستطاعة انقرة الوقوف موقف المتفرج ازاء ما يجري على امتداد حدودها الجنوبية، وما قد تحمله مجريات الاحداث من مضاعفات في صراع تركيا مع الاكراد. ولم تتوقف المناقشات في كل من تل ابيب وانقرة وواشنطن حول كيفية وصيغة الاعتذار الذي ستقدمه اسرائيل عن الهجوم على السفينة التركية «مافي مرمرة»، والذي جاء مع وصول اوباما الى تل ابيب في اول زيارة يقوم بها لإسرائيل منذ دخوله البيت الابيض. وبالنسبة لنتنياهو فإن الاعتذار كان مهماً للغاية مقابل حاجته للتعاون في المعلومات الامنية والاستخبارية بين اسرائيل وتركيا في ما يتعلق بما يجري في سورية. وقال اردوغان الذي سيزور غزة لاحقاً هذا الشهر «سنقوم بدور اكثر تأثيراً واهمية لما يخدم العدل والديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقتنا».

رمزي بارود كاتب أميركي من أصل فلسطيني ومدير تحرير موقع «بالستاين كرونيكل» الإلكتروني

 

الأكثر مشاركة