أوباما يتذرع بـ «الكيماوي» لعدم التدخــل في سورية
في أواخر أبريل الماضي، خلصت أجهزة الاستخبارات الأميركية الى أن غاز الأعصاب ( السارين)، سلاح كيماوي تشير التقديرات إلى أنه أقوى من السيانيد بـ500 مرة، قد تم استخدامه في الحرب الأهلية الدائرة في سورية. وكان البيت الأبيض ألمح في وقت سابق الى ان استخدام نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد للأسلحة الكيماوية سيكون مبرراً للتدخل، الا أنه لم يؤكد بعد ما إذا كان قد حصل على هذا المبرر بالفعل.
وفي كلمة له في نهاية الشهر الماضي قال الرئيس الاميركي، باراك أوباما، إنه «علينا ان نتأكد أولاً من حصولنا على الحقائق»، مضيفاً أن الولايات المتحدة تحتاج إلى أدلة أكثر وضوحا عن كيفية استخدام الأسلحة الكيماوية ومن الذي يستخدمها بالضبط.
أنه أمر بالغ الصعوبة ومهمة شاقة بطبيعتها ان يتم جمع أدلة دامغة في هذا البلد المغلق، ومن يعتقدون بخلاف ذلك ينبغي أن يتذكروا تقديرات الاستخبارات الخاطئة خلال فترة (الرئيس العراقي السابق)، صدام حسين، التي اشارت الى مخزونات كبيرة من أسلحة الدمار الشامل في العراق. وأثارت تلك المعلومات الخاطئة، حربا مثيرة للجدل مكلفة للغاية، خلقت انقساماً دولياً فادحاً.
إذا كانت إدارة أوباما جادة في سعيها جمع المزيد من الحقائق الدامغة عن استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية، فيجب أن تضع في اعتبارها انه من المستحيل الحصول على تحقيق مكتمل، شفاف، ومفتوح بالتعاون مع الحكومة السورية، وعلى الرغم من ذلك عبر البيت الابيض، في رسالة إلى الكونغرس، عن رغبته في الحصول على «تحقيق شامل تجريه الأمم المتحدة» بشأن هذه المسألة. ونستطيع ان نقول هنا ان الأسد لم يمنع فقط وجود مفتشي الأمم المتحدة داخل اراضيه، إنما كانت الرسالة التي تطلقها حكومته مبهمة على الدوام، بل متناقضة، ففي 25 أبريل، أعلن وزير الإعلام السوري، عمران الزعبي، أن بلاده ليس لديها مثل هذه الأسلحة، ولم تمض لحظات حتى أضاف أن الجيش لم يستخدمها، «على افتراض وجود مثل هذا السلاح في المقام الأول».
وفي نهاية المطاف، فإن جمع المعلومات الاستخبارية في سورية سيكون عملية تدريجية، وعلى واشنطن ان تجمع أنواعاً مختلفة من الأدلة عن طريق هيئاتها الاستخبارية المختلفة (بما في ذلك وكالة المخابرات المركزية، وكالة استخبارات الدفاع، وكالة الأمن القومي، وغيرها) وأيضا من وكالات استخبارات حلفائها الناشطة في المنطقة خصوصاً بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.
وتلعب استخبارات الإشارات ـ مثل الاتصالات المعترضة، وصور الأقمار الاصطناعية ـ بالطبع دوراً كبيراً في هذا الخصوص. وينبغي أن تركز وكالات الاستخبارات على اعتراض الاتصالات الإذاعية، والاتصالات الرقمية بين الوحدات العسكرية التي يشتبه في انها تتعامل مع الأسلحة الكيماوية، وإذا كانت تلك الوحدات على بينة من حركة أو نشر الأسلحة الكيماوية، فمن المرجح أنها ستتعاون في مناقشة هذه المسألة في نهاية المطاف. وينبغي لهذه الوكالات أيضا التدقيق من خلال صور الأقمار الاصطناعية لمعرفة ما إذا كان هناك أي دليل مرئي عن حركة الأسلحة الكيماوية. لكن حتى ان مثل هذه الأدلة لا ترقى من الناحية القانونية لان تصبح دليلاً من الأدلة التي تقول إدارة اوباما إنها تبحث عنها.
وهذا هو السبب في ان الاستخبارات البشرية ـ جمع المعلومات الاستخباراتية من خلال الاتصال المباشر مع الناس ـ ستكون عنصراً محورياً في هذا الشأن. وبطبيعة الحال، من الصعب جمع بعض الادلة على سبيل المثال عن طريق منظمة أجنبية متسللة، إلا ان مثل هذه الوسائل ليست هي السبيل الوحيد لإنجاز الأمور، فهناك عملاء للولايات المتحدة على الارض يستطيعون شراء عينات من الأنسجة البشرية من ضحايا الأسلحة الكيماوية، أو الحصول على عينات من التربة من أجل التحقق من استخدام الأسلحة الكيماوية. (وفي الواقع، فقد تم التأكيد بأن أجهزة الاستخبارات البريطانية قد حصلت بالفعل على مثل هذه الأدلة)، ويمكن لهؤلاء العملاء ذاتهم جمع شهادات من الأطباء والطاقم الطبي الذين عالجوا ضحايا الهجمات الكيماوية.
إذا بدأ نظام الأسد في الترنح، فينبغي أن يكون عملاء المخابرات الاميركية على استعداد لإقناع مصادر داخل الحكومة السورية لتقديم المعلومات كوسيلة لتأمين بقائهم على قيد الحياة.
وفي الوقت الراهن، فمن السهل إقناع الثوار السوريين بتقديم المزيد من التفاصيل في هذا الشأن، إلا ان ذلك أيضا يسبب بعض الاشكالات، حيث من المحتمل أن تستطيع المعارضة بسهولة التلاعب في هذه الأدلة لتشجيع التدخل الخارجي، كما هي الحال في الفترة التي سبقت الحرب على العراق، عندما قدم سيلاً من المنشقين من العراق تقارير مقلقة إلى وكالات الاستخبارات الغربية حول قدرات صدام.
وهناك أمثلة تاريخية عن جمع معلومات استخبارية ناجحة في ظل القيود المشددة نفسها. فعلى سبيل المثال، فقد كان الحلفاء يجاهدون من اجل نزع السلاح عن ألمانيا المهزومة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانوا يرغبون في تخفيض الجيش الألماني الى 100 الف جندي، واستطاعوا الحيلولة دون ان تشكل ألمانيا قوات جوية وتحصل على مدافع ثقيلة وغواصات.
ألمانيا، بطبيعة الحال، كان لها كل المصلحة في عدم اتباع تلك القواعد، ولهذا السبب واجه مفتشو التحالف التشويش عند كل منعطف، وتعرضوا حتى للاعتداء الجسدي، كما كانوا لا يعلمون شيئاً عن التعاون السري بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي السابق في مجال الطيران، والتدريب على استخدام الدبابات، واختبار الغازات السامة. ومع ذلك، استطاع المفتشون إحراز العديد من الانتصارات بمساعدة عدد من المخبرين، تمكنوا من تحديد الأسلحة داخل مخابئ سرية في ألمانيا، على الرغم من مواجهتهم مقاومة من الجيش الألماني والحكومة.
استطاعت البعثة بشكل عام، على الرغم من الإحباطات التي عانتها، ان تحرز نجاحاً ملحوظاً، حيث تمكن المفتشون من تجريد ألمانيا من معظم الأسلحة الثقيلة التي تمتلكها، وتمكنوا ايضاً من اعاقة انتعاش جيشها لبعض الوقت ليصبح قوة هجومية. والواقع أن أكبر درس يمكن الاستفادة منه من خلال عرض هذه الحالة الألمانية في فترة ما بعد الحرب العالمية يتمثل في انه عن طريق المثابرة يمكننا الحصول على نتائج استخبارية مهمة حتى تحت الظروف الأكثر استثنائية.
هناك درس آخر أيضاً: فبعد جمع الاستخبارات، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو كيف سيتم استخدامها.
وكما يؤكد المؤرخ العسكري البارز، جون كيغان، في كتابه الاستخبارات في الحرب، فإنه «لا يوجد شيء ثمين مثل السر الذهبي، المتمثل في قطعة من الاستخبارات النقية»، التي ستقطع باليقين كل شك وتوجه يقود إلى اتخاذ العمل الصحيح.
الاستخبارات تقوم بتنبيه السياسة، التي تنبثق هي نفسها عن الإرادة والتقديرات. بعد الحرب العالمية الأولى تم استخدام جهود مفتشي الأسلحة وايضاً الأسلحة غير المشروعة التي تم اكتشافها في البداية تم استخدمها من اجل اتخاذ مسار أكثر تشدداً ضد ألمانيا.
وبالمثل، في حالة العراق، لجأ صناع القرار للتركيز على الكم الهائل من الاستخبارات حول أسلحة الدمار الشامل من اجل تعزيز قضية الحرب، وهو القرار الذي أدى في نهاية المطاف الى تأثير مدمر في الرأي العام حول الصراع عندما لم يتم العثور على تلك الأسلحة.
وفي الحالة السورية يبدو ان هناك قصة مختلفة تتنامى باستمرار، في الوقت الذي تفضل إدارة أوباما استخدام جمع المعلومات الاستخبارية باعتبارها وسيلة لتأخير اتخاذ خيار سياسي واضح. ويبدو أن المسؤولين الأميركيين يعرفون أنهم عندما يدعون إلى توافق دولي في الآراء بشأن الحقائق حول سورية، فإنهم يطلبون شيئاً من المستحيل تحقيقه.
فيغاس ليوليفكيوس - أستاذ التاريخ ومدير مركز دراسات الحرب بجامعة تنسي كنوكسفيل