العودة إلى فلسطين حق يورثه الأجداد لأحفادهم
على باب منزله، في أحد أزقة مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، كان يجلس الحاج الثمانيني أمين أبوالصادق وبجواره أحفاده الذين ولدوا وتربوا في هذا المخيم، فيما كان يلتقط أنفاسه بقهر، وينظر إلى أحفاده بحسرة وهو يروي لهم حكاية بلدته المسلوبة يافا، والتي لايزال يحتفظ بمفتاح بيته فيها، الذي هجّره منه الاحتلال قبل 65 عاما في نكبة عام 1948.
هذه الصورة التي يرسم تفاصيلها الحاج أبوالصادق لاتشهدها مخيمات اللجوء في قطاع غزة، والبالغ عددها سبعة مخيمات في الذكرى الـ65 لنكبة الشعب الفلسطيني، بل هي الحالة الدائمة التي تعبر عن تمسكهم بحق العودة إلى ديارهم المغتصبة.
وبينما كان الحاج أمين يروي لأحفاده تاريخ يافا وحكاية التهجير التي تعرض لها، راح الطفل محمد حفيده يتأمل المفتاح الذي يحمله جده، ويقول لـ«الإمارات اليوم» بلغة الكبار، «لن أتخلى عن حق العودة، ولا عن بيتنا في مدينة يافا التي حرمنا الاحتلال منها، فقد قرأت في كتب التاريخ ضمن المنهج الدراسي عن مدينة يافا وأهميتها، وهذا جعلني أتمسك أكثر بحق العودة إليها، وأن أراها حتى لو كان آخر يوم في حياتي».
من جهة أخرى، يقول الحاج أبوالصادق، «على الرغم من بعدنا عن بلدنا 65 عاما، إلا أنها مازالت محفورة بذاكرتنا، ولن نتخلى عنها، فالدم الذي يسري في عروقنا مستمد من هذه الأرض، فيما سيكمل أبناؤنا وأحفادنا المشوار من بعدنا، وستعود فلسطين إن شاء الله ولو بعد آلاف السنين».
ويضيف «لن أنسى بيتنا في مدينة يافا عروس البحر، فقد كان يطل على البحر وأمامه مركب جدي، الذي كنا نبحر فيه مئات الأميال لصيد الاسماك والتجارة، فهذه الذاكرة محفورة في قلوبنا على الرغم من سنوات البعد».
تهجير
ويسرد الحاج أبوالصادق لـ«الإمارات اليوم» تفاصيل تهجير عائلته من مدينة يافا، حيث كانت تسكن في حي النزهة، وهجّرها الاحتلال منها حينما كان عمره 17 عاما، ويقول معلقاً: «في شهر مايو قبل 65 عامًا، جاءتنا أخبار بأن الجيش العراقي قادم إلينا للدفاع عنا ففرحنا، لكن في الحقيقة لم تكن هذه الجيوش عربية، بل كانت عصابات صهيونية تتخفى بزي الجيش العراقي، وقاموا بإطلاق النار المباشر علينا، وأصيب شقيقي الأكبر خضر في قدمه، وعلى الفور خرج والدي وأعمامي وجميع أفراد عائلاتنا من المدينة تحت وقع الرصاص والقتل».
وخرج الحاج أمين وعائلته من دون أن يأخذ شيئًا من مقتنياته على أمل أن يعود في اليوم التالي، ويضيف «خرجنا بسرعة جنونية إلى المراكب التي أقلت الكثير من سكان يافا إلى مصر، وعيوننا لم تنقطع عن البكاء وحتى هذه اللحظات أهل يافا أكثر من بكوا على مدينتهم الجميلة».
ومكثت عائلة أبوالصادق في مصر ما يقارب العام متنقلة بين مدينة بورسعيد والقنطرة وسيناء، حيث أقامت خلال هذه الفترة في عنابر، وهي عبارة عن بلوكات للجيش، وكان يسكن في العنبر الواحد نحو خمس عائلات.
ونقلت العائلة بعد أن خرجوا من مصر بواسطة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى مخيم الشاطئ، الذي تقيم فيه حتى هذا اليوم، حيث يقول «كان نصيبنا أن نسكن في مخيم الشاطئ للاجئين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ليكون هناك شيء مشترك يربطنا بمـدينة يافا عـروس بحر فلسطين، ولتبقى صورة ورائحة بحر يافا تراودنا في كل لحظة».
رحلة اللجوء
أما الحاجة أم محمد مقداد (78 عاماً)، فما زالت تحتفظ ذاكرتها بأيام الطفولة التي قضتها في قريتها الأصلية (حمامة)، التي هجرت منها هي وأهلها قبل 65 عاما، وتقول «قضيت أجمل أيام حياتي في مرحلة الطفولة عندما كنت أعيش في قرية حمامة، ولا أنسى مزرعة عائلتي التي امتلأت بالعنب والتين، اللذين اشتهرت بهما حمامة، ولكن المحتل شوه كل هذه الصورة الجميلة، وطردنا قسرا من موطننا، لتبدأ مأساة اللجوء والتهجير التي ما زلنا نعيش ويلاتها حتى يومنا هذا».
وتروي (أم محمد) رحلة التهجير واللجوء إلى قطاع غزة، مؤكدة أن الصدمة التي تعرض لها الفلسطينيون في ظل تزايد مجازر وجرائم العصابات الصهيونية وتنكيلها بالقرى الفلسطينية، إذ كان لابد لسكان حمامة الرحيل بحثا عن منطقة آمنة.
ولا تغيب عن ذاكرتها الأخطار التي رافقت رحلتهم، حيث قامت العصابات الصهيونية بمراقبة الطرق الرئيسة والاعتداء على القوافل، ونهب ما يحملونه من غلال وأموال، حيث تعرض الكثيرون للقتل بعد نهب ممتلكاتهم، واضطر الباقون للاتجاه إلى الساحل والسير جنوبا، حتى وصلوا إلى قطاع غزة.
65 عاما انقضت منذ وصول (أم محمد) وعائلتها إلى مخيم الشاطئ للاجئين في غزة، ومازالت تورث ذكريات حمامة وصورها وبساتينها حلما لأحفادها كما ورثته لأبنائها الخمسة، وتعلمهم لكنتها وجمالها وتبث فيهم روح الأمل بالعودة.. ولو بعد حين.