إسرائيل ليست مستعدة لأي تسوية
إذا كانت الدبلوماسية أداة فعالة في حل النزاعات والمشكلات الدولية، فإن نجاحها يعتمد إلى حد كبير على ما يطرحه طرف واحد أو أكثر من شـروط مسبقة ومدى قبول الأطراف الأخرى بها، سـواء كانت منطقية ومعقولة أو مجحفة ومبالغ فيها، قـبل الشـروع في المفاوضات.
وفي حالات الصراع أو الاشكالات التي يمكن بوضوح التمييز فيها بين طرف منتصر أو رابح وطرف مهزوم أو خاسر يمكن للطرف القوي أو المنتصر أن يفرض شروطاً غير ذات صلة بجوهر موضوع النزاع، وقد تمس جوهر سيادة الأطراف الأخرى ومصالحها كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية إثر الاستسلام غير المشروط لألمانيا واليابان، وذلك على قاعدة «إما ان تأخذها وتقبل بها كلها أو ترفضها كلها»، وهذا ما حاولت إسرائيل إملاءه على مدى 20 عاماً منذ بدء المفاوضات عقب التوصل الى «اتفاق أوسلو»، وبعده خطة «خريطة الطريق» التي وضعتها اللجنة الرباعية الخاصة بالشرق الاوسط، حيث أحبطت إسرائيل جهود هذه اللجنة وأفشلتها بكل إصرار وتعمّد، وكانت ومازالت تتصرف باعتبارها الطرف الرابح او المنتصر، وأن الفلسطينيين هم الطرف الأضعف والخاسر، غير أن هذا النهج لم يثمر النتائج المرغوبة في التقدم الملموس والكبير نحو السلام مع استمرار إسرائيل في توسيع المستوطنات القائمة وبناء مستوطنات جديدة ومصادرة المزيد من الاراضي الفلسطينية وإجراءاتها لتهويد القدس الشرقية، وتهجير سكانها الفلسطينيين والتضييق عليهم، ومصادرة بيوتهم أو نسفها وهدمها ورفضها إيجاد أي تواصل أو ترابط بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنكارها الكلي لحق اللاجئين الفلسطينيين في المنفى، والذي ضمنته القوانين والقيم والاخلاقيات الدولية. وما أتحدث عنه ينطبق أيضا على سلسلة أخرى من القضايا بما فيها إلغاء الأسلحة النووية والتخلص منها وتشكيل حكومة عالمية. وبالنسبة لمسألة الحكومة العالمية فإنه ليس هناك مناخ دولي للرأي قوي بما يكفي لمواجهة النزعة الوطنية والقومية. ومما يستدعي الحديث عن الشروط السياسية المسبقة بضرورة أكبر هو الجهود والمحاولات التي يقوم بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري لاستئناف مفاوضات السلام بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، حيث يضع كل منهما شروطا مسبقة فالحكومة التي يترأسها بنيامين نتنياهو ملتزمة بشكل واضح وقوي بالتجسيد السياسي لإسرائيل الكبرى، وبالتالي فهي ليست مستعدة لأية تسوية بعيدة عن هذا المفهوم وتسعى إلى إضفاء الشرعية على أهدافها وخططها التوسعية، مستندة في ذلك على دهائها وبراعتها في استغلال الدبلوماسية الاميركية لتحقيق ذلك، وإلى ثقتها في غياب أي ضغط أميركي حقيقي عليها او حتى رغبة جدية في ممارسة مثل هذا الضغط.
وبالنسبة للسلطة الفلسطينية فهناك ضعف واضح في الموقف الفلسطيني بسبب عدم تماسك الصفة التمثيلية، وغياب الوحدة الوطنية والمتمثل ليس في عدم تمثيل الحكومة المنتخبة والمقالة في غزة، بل ايضا في غياب التجمعات والكتل الكبيرة للاجئين الفلسطينيين في الدول العربية في الدول المجاورة لفلسطين. وفي حال استمرار الجمود الذي يحول دون استئناف المفاوضات، فإن الطرف ذي الموقف الاضعف أمام المجتمع الدولي والاعلام سيتلقى على الارجح النصيب الأكبر من اللوم حتى في حال فشل المفاوضات بعد استئنافها، وستشتكي إسرائيل من انه ليس لها شريك في الطرف الفلسطيني وتسارع الى المزيد من التوسع الاستيطاني وتزداد تمسكا بالقدس الموحدة عاصمة لها.
وبالنسبة لفلسطين فإنها ستشهد تصعيدا وتكثيفا للمقاومة وتشدد على ثقتها في المزيد من التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، والحملة لمقاطعة منتجات المستوطنات والاحداث والمناسبات الإسرائيلية وتعرية موقف إسرائيل وفرض عقوبات عليها. ولعل موقف الأكاديمي ستيفن هوكينغ في مقاطعة المؤتمر الذي عقد برعاية الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز خير دليل على الاستياء العالمي المتزايد من مواقف إسرائيل وسياساتها. وإذا ما نظرنا إلى أحداث وتطورات الاعوام الـ20 الماضية نلاحظ الزيادة المذهلة في عدد المستوطنين في القدس والتغييرات الكبيرة التي أجرتها إسرائيل على البنى الهيكلية للمدينة بهدف تهويدها وتقويض أي آمال للفلسطينيين في تنفيذ حل الدولتين، الذي يعتبر التعويذة المتكررة للولايات المتحدة. وفي عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، والحالي باراك أوباما، لم يتم بذل جهود حقيقية ومكثفة لدفع الطرفين نحو مفاوضات حقيقية، إضافة إلى أن واشنطن لم تظهر رغبة حقيقية أو إرادة جدية في رعاية المفاوضات والقيام بدورها الحقيقي كوسيط للتقريب بين الطرفين.
وما كان يبدو فكرة دولة فلسطينية قابلة للحياة والاستمرار على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ يونيو 1967 بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 242، انكمشت كثيراً بعد التفاوض على الإطار العام لتنفيذ «اتفاق أوسلو» لتصبح ضرباً من الافكار الخيالية. وما لاشك فيه أن الفهم الصحيح للاشتراطات السياسية المسبقة مطلب ضروري لنجاح أي جهود لحل أي صراع أو مشكلة معقدة منذ وقت طويل.
ريتشارد فولك مقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية