الخياطات في بنغلاديش يعشن مأســـاة متواصلة
استفاقت بنغلاديش قبل أسابيع على وقع كارثة إنسانية، إذ انهار مبنى يضم مئات الأشخاص الذين يعملون في الخياطة، وبينما هلك عدد كبير منهم، نجا آخرون من الموت المحقق.
وتروي إحدى الناجيات ملابسات الكارثة والظروف القاسية التي يعيشها عمال الخياطة في هذا البلد الفقير. وتقول سكينة بيغم، إنها كانت تعمل مع زميلاتها بوتيرة متسارعة للغاية إلى أن تهاوى المبنى وأصبح ركاما. وتعد هذه القصة إشارة واضحة إلى معاناة العمال في البلدان الفقيرة من أجل صنع لباس أقل تكلفة، يتم تصديره إلى الدول الغنية.
كانت سكينة تعمل في الدور الخامس من المبنى الذي أصبح مصنعاً للألبسة، وبينما كانت منهمكة في الخياطة وتدوير عجلة آلة الحياكة، في صباح الأربعاء 24 من أبريل الماضي، وإذ بالمصنع ينهار، مخلفا وراءه 1000 ضحية. ولحسن حظ سكينة فقد تم انتشالها من بين الأنقاض، بعد ثلاث ساعات من وقوع الحادث، وأصيبت في إحدى ساقيها.
وتقول الناجية المحظوظة إنها لا تريد العودة إلى العمل، والكثير من زملائها الناجين يشاطرونها الرأي نفسه. وغير بعيد عن المبنى يقال إن مصنعاً آخر، يمتلكه الشخص نفس، ويدعى سهيل رنا، يعاني تصدعات في جدرانه، الأمر الذي أثار الذعر في نفوس العاملين. وقبل أسبوعين شهد أحد مصانع دكا حريقا قضى خلاله عدد من الأشخاص. ويحدث ذلك بشكل مستمر في بلد تفتقر فيه المنشآت الصناعية إلى أدنى معايير السلامة.
قدر محتوم قالت سكينة إن يوم الكارثة لم يبدأ بشكل جيد بالنسبة لها. فقد كان والدها مريضاً أثناء الليل، وكان يجب نقله إلى المستشفى. وكانت سكينة مريضة أيضاً، لكن لم يكن لديها خيار سوى أن تذهب إلى العمل، ومواجهة قدر محتوم، لأن أصحاب العمل كانوا قد هددوا بعدم دفع أجرها إذا لم تلتحق بالمصنع. وصباح ذلك اليوم، قبل انهيار المبنى، كان الكثير من العمال يقفون في الخارج، ولم يجرؤ أحد منهم على الدخول، وكان لدى الجميع شعور غريزي بأن المكان خطر. وفي الثامنة و10 دقائق، حضر المشرفون، وأمروا العمال بالتوجه إلى العمل. وقالوا انه لا داعي للقلق، وكل شيء كان على ما يرام. وقال أحد المشرفين «نحن هنا أيضاً»، وكان العمال تحت ضغط شديد ولفترة طويلة. وبدأت سكينة في العمل على آلة الخياطة، وفجأة اهتزت الأرض تحت قدميها، وانهار الجدار وراءها، فهرعت نحو المخرج، لكن السطح تهاوى تحتها ودفنت تحت الأنقاض، إلى الأرداف. وتقول العاملة إن تنفيذها أوامر المشرفين كاد يودي بحياتها.
سكينة تلقت تهديداً بعدم الحصول على أجرها لو تغيبت عن العمل. أ.ف.ب |
ويقول الأهالي إن «ما يحدث ربما يكون غضباً إلهياً بسبب أخطاء ارتكبناها». ويقول عمال المصنع المنهار إن ظروف عملهم سيئة للغاية، ووصفوها بالمرعبة. وفي الغالب لا يحصل العمال على إجازة، ولو يوماً واحداً، وإذا توفي شخص من عائلة العامل يقول صاحب العمل «حسناً، لا يوجد شخص آخر يمكن أن يمنع ذلك، إذا توفي شخص فقد مات. فلماذا تريد الذهاب إلى العزاء؟ فلا يمكنك فعل شيء، وإذا كان من الضروري أن تأخذ يوم إجازة، فلن تحصل على أي شيء مقابل ذلك اليوم».
وتقول سكينة إنها وزميلاتها يحصلن على الأجر ما دمن موجودات في المصنع، ولا يمكنهن الحصول على إجازة إلا نادراً. وأحيانا يعملن إلى الـ11 ليلاً، تحت ضغوط كبيرة، وإلحاح القائمين على العمل بضرورة إنهاء الطلبيات في الوقت المحدد. وحتى ليلة الانهيار، كانت مجموعة كبيرة من الخياطات منهمكات في العمل إلى وقت متأخر. وتواجه العاملات هذه الظروف القاسية بالصبر والأمل، إذ إن أغلبهن يعلن أسراً، أو لديهن أطفال صغار. وعندما تطلب عاملة من المشرف الإذن بالذهاب إلى المنزل، لأن أطفالها في انتظارها، يرد قائلا: «لماذا تأتين إلى العمل إذا كان لديكن أطفال؟ ابقين في بيوتكن لرعاية أطفالكن إذاً، لكن إذا كنتن ترغبن في إنجاب أطفال فلا يمكن العمل هنا». وتتردد مثل هذه التعليقات دائماً أمام مسامع الخياطات.
مطالبات يائسة
ظروف العمل في ورش المصنع قاسية، والحرارة فيها لا تطاق، فهي ورش ضيقة، وتعج بمئات العاملات، ولا يوجد فيها إلا عدد قليل من المكيفات المتهالكة، وباءت محاولات الحصول على مراوح هواء بالفشل. ويرد القائمون على العمل على هذه المطالب البسيطة بأن المصنع لا يحقق أرباحاً، وفي حال حصل على أرباح فسيتم تحسين ظروف العمل. ويطالبون العاملات بمزيد من الجهد لدراسة المسألة.
لا تتذكر سكينة، التي انضمت إلى المصنع قبل أسابيع قليلة، اسم الشركة التي تعمل لمصلحتها، وتقول إن بطاقة عملها تحمل اسم «إثر تكس»، حسب ما قيل لها، لأنها لا تقرأ. أما معايير النظافة فهي دون المستوى بكثير، فالعمال لا يستحمون، وبعضهم يطبخ في زوايا المصنع، والنفايات مكدسة وراء المبنى. وكانت العاملات يتعرضن للمضايقات في طريقهن إلى الحمامات التي تفتقر إلى الخصوصية. ولا تستطيع الخياطة أن تنال قسطاً من الراحة أو أن تذهب بجانب نافذة لاستنشاق هواء نقي، وقد يتعرض بعضهن للصفع على الوجه أحياناً.
تعودت النسوة على هذه الحال، وأصبحن لا يشتكين، فالمصنع يعطيهن بعض المال الذي يضمن لهن العيش، في حين جنى أصحاب المصنع أموالاً كثيرة، استثمروا جزءاً منها في تحديث الماكينات وجلب معدات جديدة. وتجد الخياطات أنفسهن مجبرات على العمل، إذ لا يوجد أمامهن خيار آخر، لكن ينبغي أن يحصل العمال على رواتبهم في الوقت المحدد على الأقل. ولسوء الحظ، فإن العديد من أصحاب المصانع يدفعون الأجور في وقت متأخر. وينظم العمال إضرابات، تدوم أسابيع أحيانا. وتقول إحداهن «لماذا يتوجب علينا العمل إذا لم نحصل على أي المال؟ علينا أن ندفع الإيجار قبل الـ10 من كل شهر، وهذا من الصعب القيام به عندما لا نحصل على رواتبنا». وتقول أخرى «لم نحصل على أي شيء منذ أبريل الماضي، والآن بعد أن انهيار المصنع، لا أحد يعرف ما إذا كنا سنحصل على المال أم لا، ولم أر حتى الآن ممثلا عن الشركة ليقدم لنا أو يخبرنا عن تعويضات».
كانت الخياطة تتقاضى نحو 51 دولارا شهريا، وتعمل يوميا من الـ8 صباحاً إلى 5 مساء، مع احتمال تمديد الوقت. ومع الساعات الإضافية يمكن أن يزيد الراتب دولارين أو ثلاثة في الشهر. وتقول سكينة إنها لا تشعر بالغضب إزاء شركات النسيج الأجنبية، فهي تقدم الطلبيات وتدفع لأصحاب المصانع، والقليل من هذا المال يحصل عليه العمال، في حين يذهب الجزء الأكبر لأرباب العمل. وسيكون الوضع كارثياً بالنسبة للخياطات الفقيرات إذا توقف الأجانب عن تقديم الطلبيات، لأن المصانع في دكا والمدن البنغالية الأخرى سيكون مصيرها الإغلاق. وبالتالي ستفقد العاملات عملهن، ولن يكون بمقدورهن إعالة أطفالهن.
عبء كبير
الحياة في مدينة كبيرة مثل دكا مكلفة بشكل لا يصدق، والإيجار مرتفع جدا. وتعيش سكينة وزوجها برفقة اثنين من أبنائهما في غرفة واحدة، وتدفع 23 دولاراً شهرياً مقابل الإيجار. وينام أطفالها على الأرض، في حين يستخدم الزوجان سريرا صغيرا. وهناك مطبخ مشترك مع عائلتين، وحمامان، ومكان واحد للاستحمام يستخدمه الجميع.
تعيش في الطابق الذي تقيم فيه عائلة سكينة سبع أسر، تشغل ثماني غرف. وأصحاب العقار يعيشون في غرفتين ويؤجرون الست الأخرى. ولحسن الحظ توجد مياه في الحنفية وغاز وكهرباء. ويشكل التعليم عبئاً كبيراً على العائلات، إذ يكلف الطفل الواحد نحو 90 دولاراً شهرياً. ويعمل زوج سكينة في نقل البضائع، وهو عمل لا يدر عليه الكثير من المال. وبالنسبة للزوجين فإن تعليم طفليهما أهم من البحث عن شقة أوسع.
النساء في بنغلاديشلديهن خيارات قليلة عدا العمل في صناعة النسيج، على الرغم من حوادث انهيارات المباني المتكرر التي تخيف العاملات. ويفضل بعض البنغاليات العيش في القرية، وعمل أي شيء هناك، عوضاً عن الموت تحت أنقاض مصانع المدينة. وهناك مصانع تفتقر لمخارج الطوارئ، إذ يتم إغلاق مغظم المنافذ وإبقاء واحد أو اثنين فقط.
ولطالما اشتكى العمال إهمال المشرفين، الذين لا يكترثون كثيراً لسلامة العاملات. ولم يستجب أرباب العمل لأبسط المطالب، ومنها حفظ عدد العاملين في الورش، واقتناء مراوح للتهوية، والمزيد من مخارج الطوارئ. وتستطرد سكينة «شخصيا، ليس لدي أي توقعات للمستقبل. وكل شيء يعتمد على أهواء أصحاب المصانع، فعلى سبيل المثال، لم يعيروا اهتماماً للحالة الصحية للمستخدمين وتوفير بيئة مناسبة لهم».
مستقبل الأطفال
تتمنى سكينة أن تشتري آلة خياطة خاصة بها، كي تكسب قوتها بطريقة أسهل، وفي منزلها، إلا أنها لا تمتلك المقدرة لفعل ذلك. وراتب زوجها ضعيف جداً، الأمر الذي دفعها للعمل في هذه الظروف القاسية لمساعدة أطفالها من أجل الحصول على تعليم جيد وتأمين مستقبل أفضل. ولا تريد الخياطة البنغالية أن يعمل أطفالها في صناعة النسيج، كما تفعل هي، أو أن يقودوا عربات نقل، كما يفعل والدهم. وبالتالي تجد الكثير من البنغاليات أنفسهن مجبرات على العمل في النسيج، رغم قساوته، لضمان مستقبل أفضل لأطفالهن. وفي ذلك تقول سكينة، «أريد أن يكون أطفالي أقل قلقاً مما نحن عليه الآن. لم أذهب إلى المدرسة إلا فترة قصيرة، وأريد أن أحمي أطفالي من أن يلقوا مصيرنا نفسه، وأتمنى أن يحصلوا على وظائف في القطاع الحكومي».
ينحي عمال المصنع المنهار باللائمة على مالك البناية، سهيل رنا، إذ لم يحصل على رخصة لبناء العديد من الطوابق، وقد كان موجوداً يوم الحادث. ونجا رنا من الموت بأعجوبة، وعوضاً عن أن يسهم في إنقاذ الضحايا اختفى من المشهد تماما، في حين هرع الناس من كل مكان لنجدة المحاصرين وسط الأنقاض.