عوائد تهريب المخدرات تشكل أكثر من 5٪ من حجم اقتصاد البلاد
كولومبيا تواجه غسل الأموال بــ 17 مليـار دولار
كان العديد من الألواح الخشبية المتعفنة تسحب، بينما العشرات من شعب «وايو» الحفاة يحملون آلات التنظيف والمراوح و«مسجلات استيريو» على ظهورهم، من سفن الشحن الراسية في شمال كولومبيا. وطوال الليل ظل هؤلاء يفرغون الصناديق التي تكدست على ارتفاع 30 قدماً، وبعد ذلك ينقلونها عبر منحدر إلى شاحنات متوقفة بانتظارهم، ويقوم موظفو الجمارك عند ميناء مؤقت في منطقة بورتو نيفو في شبه جزيرة غوجيرو بالتحقق من محتويات الشحنات بواسطة مصابيح اليد من خلال الوثائق التي تقدمها السفن.
وتعتبر المواد المحظورة المهربة الى كولومبيا جزءاً من عمليات غسل أموال بمليارات عدة، والتي تسبب الأضرار للأعمال الشرعية، وتقوض جهود كولومبيا لإعادة تشكيل نفسها كدولة مزدهرة الاقتصاد، بعد عقود من العنف السياسي والصراع بين عصابات تهريب المخدرات، ومن خلال عمليات معقدة يحصل مهربو المخدرات في كولومبيا على عوائد تهريب المخدرات على شكل بضائع، غالباً ما يتم شحنها مع بضائع وسلع شرعية، وعندما يتم بيع هذه البضائع والحصول على المال تصبح أموال المخدرات نظيفة.
بابلو إسكوبار بدأ هذا الرجل، المولود في الأول من ديسمبر 1949 في كولومبيا، وهو ابن معلم مدرسة، حياة الإجرام في سن مبكرة، فبينما كان لايزال في المدرسة كان يسرق حجارة القبور ويبيعها للمهربين في بنما، وفي بداية السبعينات من القرن الماضي دخل عالم تهريب الكوكايين، وجعله طموحه وقسوته واحداً من أكبر الاثرياء، والأكثر سطوة وعنفاً وإجراماً في التاريخ. واشترك اسكوبار مع عدد من المجرمين في منطقة ميدلين، لتشكيل كارتل ميدلين الشهير، في تهريب المخدرات، الأمر الذي جعله يسيطر على 80٪ من الكوكايين الذي يتم شحنه إلى الولايات المتحدة. واعتبرته مجلة «فورتشن» واحداً من أكثر 10 اشخاص ثراء في العالم، لكن شهرته كلفت مقتل ثلاثة مرشحين للرئاسة في كولومبيا، ومدعٍ عام، ووزير للعدل، وأكثر من 200 قاض وعشرات الصحافيين، وأكثر من 1000 ضابط شرطة. ووصل اسكوبار الى هذا الموقع البارز في عالم المخدرات بسبب سمات معينة في شخصيته، إضافة إلى علاقاته بالاشخاص المتنفذين، وتعاونه مع عصابات الإجرام. واستثمر اسكوبار أمواله التي جمعها من المخدرات في العقارات، بيد أنه عمل راعياً للعديد من المشروعات الخيرية، مثل أندية كرة القدم التي منحته الكثير من الشعبية والدعم السياسي حتى وصل إلى البرلمان. وعندما وصل الجدل بشأن أصل ثروته الى الملأ، طلبت الولايات المتحدة من كولومبيا اعتقاله وإرساله إليها. وبقي في السجن عاماً، وبعد ذلك هرب منه لبضعة أشهر، وفي عام 1993 قتل على يد وحدة خاصة من الشرطة. |
ويقدر الخبراء الأموال الناتجة عن تهريب المخدرات والسلاح والبشر في كولومبيا بنحو 11مليار دولار سنوياً، أي أكثر من 5٪ من حجم الاقتصاد الكولومبي برمته، وأكثر من إجمالي الاستثمارات المباشرة العام الماضي. ويتم إرسال البضائع التي يتم تفريغها، ومعظمها شرعية، إلى بلدة ميكاو الصحراوية، وهي على شكل قرى أفلام الغرب المتوحش، التي تبيع البضائع من الماركات العالمية بأسعار زهيدة، والمشروبات الكحولية بنصف سعرها في السوق. وقال رئيس وكالة الضرائب الوطنية خوان ريكاردو اورتيغا «يتم بيع هذه البضائع بأقل من سعر إنتاجها في المصنع».
وفي العام الماضي، تمكنت السلطات الحكومية من مصادرة بضائع غير شرعية بقيمة 128 مليون دولار، وهي أقل من 10٪ من مجمل البضائع التي تشير التقديرات إلى أنها تدخل إلى كولومبيا. ويقول رئيس مكتب الضرائب في شمال مايكاو لويس كارلوس كاناس، خلال تفتيشه سبائك الألومنيوم في شاحنة كبيرة مزودة بـ18 عجلة، خلال عبورها الحدود من فنزويلا «إنها مهمة مستحيلة، ونحن لا نملك الموارد البشرية كي نتحقق من كل شيء».
وتعتبر الصادرات جزءاً من أعمال غسل الأموال، ويتم تزوير وثائق من أجل مبيعات البضائع ما وراء البحار، غير الموجودة أصلا، وعندما يتم تقديم هذه الاوراق الى مكتب الجمارك، فإن الأموال الناتجة عن صفقات المخدرات العالمية يمكن أن تدخل دون إثارة أية شبهات، وتبلغ الصادرات الرسمية من الذهب في كولومبيا نحو 70 طناً، على الرغم من أن صناعة الذهب في هذا البلد لا تنتج أكثر من 15 طنا سنويا، وعلى الرغم من وجود كمية ضخمة من الذهب الذي يصنعه الحرفيون، يمكن أن يسد الفرق بين الإنتاج والتصدير، إلا أن السيد اورتيغا متشكك في أن كمية كبيرة من تلك الصادرات للذهب وهمية.
وعلى الرغم من أن كولومبيا تبذل جهوداً كبيرة، لتحويل صورتها من دولة تعاني وباء العنف، إلى دولة جاذبة للاستثمارات، نظراً لوجود صناعة مزدهرة في استخراج النفط والمناجم، إلا أن الاقتصاد يظل متدهوراً بسبب غسل الأموال عن طريق صفقات مهربي الكوكايين، وكافحت كولومبيا منذ عقود لتقليل معدل الجريمة المرتبطة بتجارة المخدرات، إذ تشن حرباً مدعومة من الولايات المتحدة ضد المتمردين الماركسيين، وجماعات الميليشيات اليمينية وعصابات تهريب الكوكايين، لكن عصابات الإجرام أصبحت أكثر مراوغة وذكاء في خداع السلطات.
ولو عدنا إلى أيام أشهر أمراء المخدرات في كولومبيا بابلو اسكوبار، الذي كان في أيامه الذهبية في ثمانينات القرن الماضي، تم إحضار الكثير من الأموال المغسولة بسهولة ويسر عبر الطائرة، من الولايات المتحدة، حيث كان تجار المخدرات يدفنونها حول منازلهم، لكن الأمور أصبحت الآن أكثر تعقيداً.
وهناك ثلاثة طرق تتبعها العصابات من أجل غسل أموالها، هي: تهريب الأموال غير المعلن عنها عبر الحدود، وعبر الاقنية المالية الشرعية، وعن طريق البضائع المحظورة.
وفي حقيقة الأمر، فإن الأرباح البالغة 8.8 مليارات دولار سنوياً - وهي ما يتم غسله - لا تأتي فقط من تهريب المخدرات، فهناك الاموال التي يتم كسبها عن طريق الفساد، وتجارة السلاح، والدعارة، وصناعة المناجم غير القانونية. وحالما تدخل الى الاقتصاد الكولومبي الذي يقدر حجمه بـ330 مليار دولار، يمكن أن تدفع النمو الاقتصادي للأعلى بنقاط عدة، ويمكن أن يكون الكثير من المعلومات الرسمية المتعلقة بالتضخم الى العقارات، والتجزئة، والتصدير والاستيراد، و المحاصيل الزراعية، مختلفاً عما تذكره التقارير، بسبب التزييف والمبالغة في المبيعات من أجل غسل الأموال.
ويقول السيد اورتيغا إن المشكلة بالنسبة للكولومبيين العاديين تكمن في أن البضائع المبيعة من أجل غسل الأموال، عادة ما يتم بيعها بأقل من سعر السوق، الأمر الذي يؤدي الى تغلبها على أي منافس، وبصورة معكوسة فإنها يمكن أن تؤدي الى ظهور فقاعات سعرية، اي أسعار وهمية غير حقيقية ولا تمثل قيمة السلعة، في قطاعات معينة، عندما يدفع المجرمون أسعاراً مبالغاً فيها من أجل قطعة ارض أو أي عقار، أو دفع فواتير إضافية في المطاعم والمتاجر.
وتعد تربية المواشي، على سبيل المثال، وسيلة تمويل شائعة، إضافة الى المخدرات لتمويل المتمردين اليساريين للقوات المسلحة الثورية في كولومبيا، والمعروفة باسم «فارك»، إضافة الى تمويل كارتلات المخدرات، وهم غالباً ما يدفعون أكثر بكثير من قيمة قطعان الماشية التي يشترونها من الفلاحين، وتالياً فإنهم يرفعون الأسعار، وبعد ذلك فإنهم يقومون بتصفية ما يشترونه من قطعان الماشية، للحصول على المال بسرعة، الأمر الذي يؤدي إلى هبوط أسعار الماشية في المنطقة.
ويضطر المزارعون المرعوبون إلى بيع أراضيهم، بعد حصولهم على مبالغ لا يستطيعون رفضها، حسب ما ذكره أحد مربي الماشية، يملك أرضاً في ميتا، طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، إذ قال «من الصعب رفض طلبات تجار المخدرات». وأضاف «ونحن أيضاً نواجه قطعاناً من الماشية، تأتينا بصورة غير شرعية من فنزويلا، كبضائع محظورة تؤدي إلى تخفيض أسعار لحم البقر إلى حد كبير». وتقول الحكومة إن قوات فارك من بين أكبر المالكين لقطعان الماشية، كممتلكات يمكن بسهولة تحويلها إلى سيولة نقدية، من أجل شراء الأسلحة أو الطعام أو الألبسة، لقواتهم البالغ تعدادها 8000 مقاتل.
والمدهش أن النظام المالي في كولومبيا، من ضمن أكثر الأنظمة صرامة ونجاحاً في الحماية ضد غسل الأموال، وتظهر الرايات الحمراء عند أي تحرك غير عادي للأموال، ويشتكي عملاء البنوك من الرسوم التي تجبى كل شهر، والأكوام الضخمة من الوثائق الورقية التي يتعين على كل عميل القيام بها عندما يفتتح رصيداً في البنك، لكن رئيسة اتحاد «ازوبانكاريا» للصرافة ماريا مرسيدس تقول: «إن هذا ما يجعل النظام آمناً». وأضافت «كولومبيا تمتلك سيطرة على نظامها المالي أكثر من أي نظام في العالم، حتى أكثر من الولايات المتحدة».
وعلى الرغم من أن اكتشاف البضائع المهربة أصبح مسألة صعبة، فإن السلطات لجأت إلى محاسبين لضبط المهربين، تماما كما فعلت الولايات المتحدة مع رجل العصابات الشهير آل كابوني في ثلاثينات القرن الماضي. وقالت رئيسة القسم القانوني في مكتب الضرائب كلوديا رينكون: إذا لم نتمكن من متابعتهم لكشف تعاملهم بالبضائع المحظورة أو غسل الاموال، فإننا سنتابعهم في عملية التهرب الضريبي. وتم اغتيال أحد عملائها بعد بضعة أسابيع من تعيينها محققة في الضرائب.
ويقول مكتب المدعي العام، إنه في الوقت الذي تشدد الحكومة في تعاملها مع العاملين في غسل الأموال، تزايدت القضايا، ولذلك احتاج النظام القضائي مزيداً من الموظفين للتعامل معها في المحاكم، وعادة فإن صغار المهربين الذين يقومون بالعمل على الأرض لا يحصلوا على الكثير من الأرباح، لكنهم يقولون إنه لا يوجد كثير من الطرق لكسب الرزق. وقال خوانشو بعد أن قامت الشرطة بإنزاله من سيارته في طريق دولية في اقليم لاغوجيرا: «كيف سنقوم بإطعام عائلاتنا؟». وقامت الشرطة بمصادرة صفائح بلاستيكية مليئة بالبترول، والتي تمثل تجارة مزدهرة ورائجة في مناطق الحدود التي يسهل عبورها مع فنزويلا.
ويتم تهريب البترول الرخيص، إذ يبلغ ثمن الغالون سنتين عبر الحدود من فنزويلا بالسيارات المزودة بخزانات غير ظاهرة، ومقاعد مجوفة، وأبواب مضاعفة الحجم، ويتم بيعه عند محطات يبع النفط بخمسة دولارات في كولومبيا.
وعندما كان خوانشو يخضع للتحقيق من قبل الشرطة خارج السيارة، سارع شريكه بالهرب في حين أن الشرطة وجهت فوهات بنادقها عليه، وتم إطلاق سراح خوانشو لاحقاً، وقال إنه لم يكسب سوى 13 دولاراًجراء مخاطرته بقطع المسافة في سيارته لمدة أربع ساعات، وهو يحمل البترول، لكنه أكد أنه لن يهجر هذا العمل، وقال «سنرجع غداً صباحاً وهم لن يمنعونا من ذلك».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news