الأميركيون والأوروبيون يحاولون إيجاد أرضية لإرساء سياسات متناغمة في ملفات عدة. غيتي

العلاقات الأوروبية الأميركية في مهبّ الريح

ساعدت العلاقة، بين الولايات المتحدة وأوروبا، على تشكيل القرن الـ20، كما أن التدخل الأميركي ساعد الغرب على كسب الحرب العالمية الأولى، وعلى ضمان انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وأفضى التعاون بين ضفتي الأطلسي ــ خلال الحرب الباردة ــ إلى انسحاب القوات السوفييتية من شبه الجزيرة الأوروبية. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما نوع العلاقة التي قد تتمخض في القرن الـ21 بين هذين الكيانين الاقتصاديين الكبيرين، اللذين يشكلان معا نحو 50% من إجمالي الناتج المحلي الدولي؟

الأحداث المحيطة بالتدخل في سورية، والتي لم تتحقق حتى الآن، تقدم تلميحات عن الإجابة عن هذا السؤال، إذ لم تبدأ الأزمة السورية عندما طالبت الولايات المتحدة المجتمع الدولي باتخاذ عمل ضد الرئيس السوري، بشار الأسد، عقب استخدامه الأسلحة الكيماوية، لكن بدأت مع دعوات بريطانيا وفرنسا وتركيا إلى تسليح المعارضة. وكانت الولايات المتحدة مترددة نوعا ما، لكنها انضمت في النهاية لتلك الدعوة مع العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، عندها فقط بدأت آراء الأوروبيين تتباعد، ففي المملكة المتحدة، صوّت البرلمان ضد التدخل في سورية، وفي تركيا أرادت الحكومة التدخل على نطاق أوسع بكثير من ما ترغب فيه الولايات المتحدة نفسها، وفي فرنسا أراد الرئيس التدخل، لكنه واجه برلماناً أقل حماسة.

تفرد وتميز

الصدع الأكثر عمقاً بين الأميركيين والأوروبيين، لا ينبع من اختلاف المفاهيم أو المواقف، وإنما من مفهوم الادعاء بالتفرد والتميز، وتتجذر العديد من الانطباعات الغريبة، أو عدم المبالاة بين الفريقين من هذه الفكرة.

أهم شيء نلاحظه في هذا الصدد، هو الانقسام الأوروبي، حيث صاغت كل دولة أوروبية بمفردها استجابتها أو عدم استجابتها للأزمة السورية، ولعل أكثر المواقف المثيرة للاهتمام هو موقف ألمانيا، التي لم تكن ترغب في المشاركة، وغير مؤيدة للمشاركة حتى وقت متأخر جداً. ونلاحظ هنا أيضا الانقسام بين فرنسا وألمانيا في السياسة الخارجية، ليس فقط حول سورية بل حول مالي وليبيا أيضا. وكان أحد الدوافع الأساسية وراء إنشاء الاتحاد الأوروبي هو ربط فرنسا وألمانيا اقتصادياً. ويعتبر الاختلاف بين فرنسا وألمانيا أهم أسباب الحروب الأوروبية، التي لابد أن تتجنبها أوروبا الحديثة بأي ثمن.

الآن عاد ذلك الاختلاف من جديد، وعلى الرغم من أن تلك الاختلافات لم تتجلَّ بصورة خبيثة، كما كانت عليه الحال عام 1945، لكن لا يمكننا القول إن السياسات الخارجية للدول الأوربية لاتزال متناغمة. وفي الواقع، فإن القوى الكبرى الثلاث في شبه الجزيرة الأوروبية، تنتهج حالياً سياسات خارجية مختلفة جدا، فالمملكة المتحدة تتحرك في اتجاه خاص بها، ما يحد من مشاركتها في أوروبا، وتحاول أن تجد مساراً خاصاً بها بين أوروبا والولايات المتحدة، وتنظر فرنسا إلى الجنوب، نحو البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا، وتحاول ألمانيا الحفاظ على منطقة التجارة، وتنظر نحو الشرق إلى روسيا.

لم تتمزق أوروبا، إلا أن أنها كانت دائما «مائعة كمفهوم»، فالاتحاد الأوروبي هو عبارة عن منطقة للتجارة الحرة حكر على بعض الدول الأوروبية، بل هو وحدة نقدية لا تشمل بعض أعضاء منطقة التجارة الحرة، وهو كيان يشتمل على برلمان لكنه يترك شؤون الدفاع والسياسة الخارجية لسيادة الدول، ولم يتطور ليصبح أكثر تنظيما منذ عام 1945، وحيث كانت هناك في السابق انقسامات جغرافية فقط، أصبحت الآن هناك أيضا انقسامات في المفاهيم.

ويتجلى الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا في الأزمة السورية، حيث كان يستطيع الرئيس الأميركي باراك أوباما التدخل في سورية - إن رأى ذلك مناسباً - حتى من دون موافقة الكونغرس، أما أوروبا فلا يمكنها ذلك لأنه لا توجد في الحقيقة سياسة خارجية أو دفاعية موحدة للاتحاد الأوروبي، لكن الأهم من ذلك أنه لا توجد دولة أوروبية تستطيع بمفردها شن هجوم جوي على سورية، كما اتضح جليا في الحالة الليبية. كثير من الأوروبيين يعتقدون دائماً أن رؤساء الولايات المتحدة إما سذج، كما وصفوا (الرئيس السابق) جيمي كارتر، أو كرعاة البقر، عندما نعتوا ليندون جونسون، ويزدرونهم في كلتا الحالتين. وأصبح أوباما الآن ساذجا بفضل اليسار الأوروبي، تماماً كما اعتبروا الرئيس السابق جورج بوش راعي بقر. ونلاحظ ذلك في الحالة السورية، فقد كانت أوروبا في كل مكان من سورية، ثم انهار التحالف الذي أقنع الأميركيين بالتدخل، ليترك الولايات المتحدة وحدها تقريباً. وعندما لم يفعل أوباما شيئاً في بادئ الامر، اعتقد الأوروبيون أنه تعرض للخديعة من قبل الروس، وإذا هاجم سورية لكانوا وصفوه براعي بقر. وينظر الأميركيون إلى أوروبا بمزيج من اللامبالاة والحيرة، فأوروبا لم تكن ذات أهمية كبيرة للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، لكن الصدع الأكثر عمقا بين الأميركيين والأوروبيين، لا ينبع من اختلاف المفاهيم أو المواقف، وإنما من مفهوم الادعاء بالتفرد والتميز، وتتجذر العديد من الانطباعات الغريبة أو عدم المبالاة بين الفريقين من هذه الفكرة، وعلى سبيل المثال، أشار صديق لي إلى أنه يتحدث أربع لغات، لكنّ الأميركيين ليسوا قادرين على تعلم لغة واحدة، فالحوار بين الولايات المتحدة وأوروبا «هو حوار بين كيان واحد وبرج بابل». الولايات المتحدة هي دولة موحدة، من حيث سياستها الخارجية والاقتصادية والدفاعية، أوروبا ليست موحدة بالكامل، بل إنها في الواقع بدأت تتفكك على مدى السنوات الخمس الماضية، فالانقسام والافتخار بذلك الانقسام أصبحا واحدة من السمات المميزة لأوروبا. وعلى العكس من ذلك، فإن التصالح والتوحد من السمات المميزة للولايات المتحدة.

وهناك حديث عن العلاقات بين ضفتي الأطلسي، فالأوروبيون يأتون إلى الولايات المتحدة، والأميركيون يذهبون إلى أوروبا وكلاهما يجد متعة في بلاد غيره، إلا أن تلك العلاقات ضعيفة جداً، ومن الصعب بناء سياسة حول سورية على هذا الإطار، ناهيك عن استراتيجية موحدة لحلف شمال الأطلسي.

جورج فريدمان كاتب ومحلل جيوبلوتيكي

 

 

الأكثر مشاركة