سياسة أوروبا في شمال إفريقيا غير واقعية
لايزال القادة الأوروبيون يمتنعون عن إعادة التفكير في استراتيجيتهم تجاه القارة السمراء، في الوقت الذي تغيرت فيه المعطيات بشكل جذري منذ ثلاثة عقود. وتفضل أوروبا تشبيه ما يحدث في العالم العربي من ثورات بسقوط جدار برلين في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. من ناحية، شجع سقوط (الرئيس التونسي المخلوع) زين بن علي، المصريين على الإطاحة بـ(الرئيس المخلوع) حسني مبارك، وتلته محاولات مشابهة. وسواء في أوروبا أو شمال إفريقيا فالثورات الشعبية قادها الشباب. إلا أن الاختلاف بين المنطقتين عميق كما هي النقاط المشتركة. ففي الشرق الأوسط هناك مطالبة بالحريات السياسية وأشياء أخرى. وهناك مطالبة بالعدالة الاجتماعية والمساواة، فالملايين في البلاد العربية ليس لديهم عمل وكثير منهم يعيش على أقل من دولارين في اليوم، وبالتالي فإن هؤلاء يتلهفون لتطبيق العدالة وتوفير الوظائف وإعطائهم حق الاختيار. وإذا لم يروا ويلمسوا التغيير فإن آلافاً منهم سيركبون البحر في اتجاه السواحل الأوروبية.
اعتبر قادة أوروبا مرحلة ما بعد عام 1989 –تاريخ سقوط جدار برلين- تحدياً للقارة والديمقراطية، إذ تعين عليهم مساعدة الأنظمة الشيوعية كي يتحولوا إلى نظام حكم جديد. واليوم يرى قادتنا التحدي كامناً في الديموغرافية وأعداد المهاجرين المتزايد. وبالتأكيد زار سياسيون أوروبيون ميدان التحرير في القاهرة، لكن عندما عادوا إلى بلدانهم نفضوا الغبار عن ثيابهم وبدأوا يفكرون في ناخبيهم، وراح تركيزهم يتوجه إلى كيفية التحكم في تدفق المهاجرين الذين يحلمون بحياة أفضل في أوروبا. هذا صحيح بشكل خاص بالنسبة لحكومات فرنسا وإيطاليا والبرتغال واليونان ومالطا وقبرص وإسبانيا. يمكن لهذا «النادي المتوسطي»، إذا ما استغل علاقاته وصلاته، أن يكون القوة الدافعة لسياسة أوروبية جديدة وبناءة في شمال إفريقيا. ولكن في الواقع، تم إبعاد أوروبا عن هذا الهدف بسبب الخوف من المهاجرين، الذي يستغل سياسياً من قبل اليمين (في فرنسا) أو المسيحيين الديمقراطيين (في إيطاليا). في التسعينيات، عندما كانت منطقة البلقان تشتعل بنيران الحرب الأهلية، كانت الدول المذكورة على استعداد لاستقبال الآلاف من اللاجئين. وتمارس فرنسا وإيطاليا حالياً ضغوطاً على الاتحاد الأوروبي وتطالب بأعداد أقل من المهاجرين التونسيين وتهددان بتعطيل اتفاقية «شنغن»، التي جعلت أوروبا منطقة مفتوحة بلا حدود. وهذا ما أدى إلى تناقص عدد طلبات اللجوء في جميع أنحاء أوروبا بحسب تقرير المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي تقول إن الطلبات تراجعت 33٪ في دول جنوب أوروبا بين عامي 2009 و2010. وليست أوروبا وحدها التي تواجه تحديات الديموغرافيا ومشكلات الهجرة، فروسيا أيضاً تواجه مشكلات الشيخوخة السكانية، والنقص المتوقع في الأيدي العاملة، لأسباب مختلفة. وبينما لعبت الهجرة دوراً كبيراً في التنمية الاقتصادية لكل من كندا وأستراليا، فإن كلا منهما يراجع الآن سياسات الهجرة وتفرض قيوداً صارمة، وتعمل الأخيرة على بناء معسكرات في بلدان مجاورة لترحيل المهاجرين مقابل حوافز مالية لتلك البلدان. أما في الولايات المتحدة، فإن تزايد نسبة السكان ذوي الأصل اللاتيني يشكل تحدياً ثقافياً. وكذلك الحال بالنسبة لأوروبا، فلا شك في أن تزايد أعداد المهاجرين العرب، يمثل تحديات ثقافية وسياسية مختلفة، من أهمها الجدل حول العلمانية وتراجع السكان الأصليين في ما يخص المنافسة الوظيفية.
وتنشغل الحكومات في أوروبا اليوم بمعالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية، ولكن يجب ألا يشتت ذلك انتباهها عن القضية الديموغرافية بتداعياتها طويلة الأجل. وتفاقمت المخاوف بشأن الهجرة نظراً للعلاقات التاريخية وقرب «النادي المتوسطي» جغرافياً من شمال إفريقيا، الأمر الذي منع سياسة الاتحاد الأوروبي من التقدم. في الحقيقة، كانت هناك مناقشة موضوعية قليلة في بعض هذه الدول، وكان الشاغل الأول في إيطاليا آلاف المهاجرين القادمين عبر «لامبدوسا» في حين تركزت المخاوف في إسبانيا على كيفية إدارة العدد الكبير لمهاجري الشتات المغربي. وما دون ذلك كان مجرد كلام من دون مضمون.
أوروبا لديها فرصة لإعادة النظر في نهجها بشمال إفريقيا. لديها الوسائل والنفوذ للعب دور فعال، ولكن فقط إذا تخلت عن طريقة التفكير السائدة في السنوات الـ 15 الماضية. وقبل كل شيء، يتطلب الأمر المشاركة البناءة من قبل مدريد وباريس وروما وأثينا ولشبونة. وهذا بدوره يتوقف على تصعيد الجدل في هذه العواصم حول مزايا وعيوب الوضع الراهن.