أردوغان أصبح مصدر مشكلات تركيا بدلاً من «الرجل القوي»

يعتبر رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، واحداً من أكثر السياسيين فطرة من أبناء جيله، حيث وجد صعوبة كبيرة في مواكبة العصر الرقمي الذي يعيش فيه، ويصرّ على أن الشريط الصوتي على موقع «يوتيوب»، الذي يسجل محادثة مزعومة بينه وابنه بلال، حول إخفاء الملايين من اليورو - يصرّ على أنه ملفق من قبل أعدائه. لكنه على الرغم من ذلك في ورطة عميقة، وكذلك الحال مع تركيا، فالصراع على السلطة بين حزب أردوغان الإسلامي (العدالة والتنمية)، وحلفاء سابقين له في الحركة الإسلامية بقيادة فتح الله غولن، وهو أحد الأئمة الذي يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له، تهز البلاد هزاً.

المعركة التي بدأت مع غولن ولم تنته بعد، جاءت بعد احتجاجات الصيف الماضي، عندما تظاهر مئات الآلاف ضد النظام الأبوي «التقوي»، الذي فرضه عليهم أردوغان، والأدلة المتراكمة عن الفساد الذي وصل حتى إلى دوائره الداخلية. ومع تطهير الآلاف من ضباط الشرطة ونقل عشرات من القضاة وأعضاء النيابة العامة، تمكن أردوغان من وقف التحقيقات التي تفجرت في ديسمبر، ولكن ليس قبل أن تطيح برؤوس أربعة من الوزراء.

حركة «خدمة»

حركة غولن هي حركة دينية واجتماعية وطنية بقيادة الداعية الإسلامي التركي، فتح الله غولن. لا يوجد اسم رسمي للحركة، لكن عادة ما يشير إليها أتباعها بلفظ «خدمة»، ويطلق عليها المواطنون الأتراك أيضاً على نطاق واسع اسم «الجماعة أو الجمعية».

اجتذبت الحركة أنصاراً ومنتقدين في تركيا وآسيا الوسطى، وعلى نحو متزايد في أجزاء أخرى من العالم. وتنشط الحركة في مجال التعليم، حيث لديها مدارس خاصة في أكثر من 140 بلداً، وتصف نفسها بأنها تقود الحوار بين الأديان.

أردوغان

في حين يصوره أعداؤه بأنه رجل فاسد أو لديه أجندة إسلامية سرية، فإنه كثيراً ما يقارن أردوغان نفسه برئيس الوزراء التركي الذي أطاحه الجيش عام 1960، عدنان مندريس، الذي تم اعدامه مع اثنين من وزرائه بعد ذلك بعام. فقد خفف مندريس القيود على الدين، كما فعل أردوغان، وسمح بإعادة فتح آلاف المساجد، وفتح مدارس دينية جديدة، وصادق على الأذان باللغة العربية. كما انه متهم، مثل أردوغان، بالاستبداد في الحكم.

إلا أن أردوغان المحاصر لايزال رجل تركيا القوي، بينما خصومه في المعارضة العلمانية ليسوا سوى أقزام سياسيين، على الرغم من تعرض موقفه في الداخل والخارج للتشويه والى الأبد، فكيف حدث هذا؟

ظل أردوغان في السلطة فترة طويلة جداً، وكثيراً ما كان يفوز بأعلى عدد من الأصوات، وكان فوزه الثالث على التوالي في الانتخابات العامة في يونيو 2011 ساحقاً اكثر منه كاسحاً. وهناك أسباب قوية لذلك، فقد جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بعد فترة طويلة من الانجراف السياسي والفوضى الاقتصادية. وفي عهد أردوغان عاودت تركيا الظهور كقوة إقليمية، ونما اقتصادها بالسرعة نفسها التي ينمو بها الاقتصاد الصيني، وتزايدت الثروة وخدمات الرعاية الصحية، وانتشرت المدارس والطرق. ونشأت سلالة جديدة من رجال الأعمال (نمور الأناضول) لتحل محل مجموعة ضئيلة من التكتلات التجارية.

وتأسس حزب العدالة والتنمية على أنقاض اثنين من الأحزاب الإسلامية المحظورة، ليظهر على شكل نسخة جديدة من الديمقراطية الاسلامية، مهمشة بظهورها النخب العلمانية التي ادعت أحقيتها في حكم الجمهورية التي أنشأها مصطفى كمال أتاتورك.

الطريقة التي تمت فيها ازاحة النخب، من الجيش إلى كبار رجال الأعمال، كشفت هشاشة المؤسسات في تركيا، تلك الهشاشة التي صارت تهدد سلامة وسيادة القانون. واستطاعت الحكومة بمساندة محققين وقضاة ينتمون إلى غولن، أن تستخدم القانون، أو في بعض الحالات أن تسيئ إلى القانون لسحق الجنرالات وحلفائهم الكماليين، (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك).

إلا أنه وبمجرد أن عمل على تحييد الجيش، وبدأ في وضع حد لطموحات «الغولنين»، كي لا يسيطروا على المؤسسات في تركيا، ارتد كبش الفداء كيداً على نحر أردوغان، وانقلبت الخدع على صاحبها. لدرجة أن أردوغان صار يدعو الآن «الكماليين» وقادة المعارضة القوميين إلى ان يتذكروا أن بعض قادتهم سقطوا في الانتخابات الاخيرة، بسبب أشرطة قذرة دست عليهم في الانترنت في الفترة التي سبقت الانتخابات.

وللمفارقة، فإن أردوغان يقود ثورة دستورية حقيقية، وإن لم تكن مكتملة، مدفوعة باحتمالات الانضمام إلى منظومة الاتحاد الأوروبي، لكن بمجرد أن أشاحت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا بوجهها عن انضمام تركيا لهذا الكيان الأوروبي، لم تعد أوروبا محركاً للإصلاح في تركيا، وانهال التوبيخ من بروكسل بعد أن كبل اردوغان الإنترنت، وسلب نفوذ القضاء، وأطلق جواسيسه للتنصت. وتحدث أردوغان الاسبوع الماضي عن ذلك، مؤكداً أن «هذه حرب استقلال، وسيكون لوطني الكلمة الاخيرة».

ويرى أردوغان نفسه أنه مفوض من الأمة لحسم هذه المشكلة، وألا يواجه اي محاسبة مؤسسية أو سياسية على سلطته، ولهذا توقف عن الاستماع إلى أي شخص إلا نفسه. الا أنه سيواجه خصمه في صناديق الاقتراع، وسيجد نفسه على المحك في الانتخابات المحلية في مارس الجاري، والانتخابات الرئاسية في الصيف والانتخابات العامة، باعتبارها استفتاء عن شخصه.

وبينما نجد أن غرائزه الإسلامية هي الطاغية أكثر من أي وقت مضى، لكنها قد لا تكون العامل الحاسم، حيث إن جميع الأحزاب التركية من جميع المشارب تشترك في هذه المنافسة سواء كانت اسلامية ام لا، والتي هي خليط من ثقافات عالم ما بعد الامبراطورية العثمانية من البلقان إلى بلاد الشام. على سبيل المثال، قد يخسر حزب العدالة والتنمية المعركة على منصب عمودية بلدية إسطنبول المهمة جداً، التي وضعت أردوغان على منصة الساحة الوطنية. بينما يمكن أن يشير ذلك إلى بداية النهاية، إلا أن المنافس الكمالي، مصطفى سارجول، يتمتع بصفات أردوغان نفسها.

ولكن حتى ولم يستطع مرشح المعارضة احراز نتائج طيبة في استطلاعات الرأي، فإن الأمور مرشحة لان تذهب من سيئ إلى أسوأ بالنسبة لأردوغان، إذا استمر في هجومه على المؤامرات المتخفية في الشركات والمدارس والصحف والمحاكم والغرف المظلمة، فقد تنهار الثقة في تركيا، التي هي رهن بتدفقات الأموال قصيرة الأجل. ويدور رحى المعركة في الوقت الراهن داخل صفوف الإسلاميين، وتعتبر اختباراً ما إذا كان هناك عدد كاف من المؤيدين الذين يرغبون في إنقاذ حزب العدالة والتنمية من نزوات رجل واحد، أو ما إذا كان - كما أشار إلي أحد مؤسسي الحزب - مشروع أردوغان قد بدأ يتفتت الآن.

ديفيد غاردنر - محرر الشؤون الخارجية بصحيفة «الفايننشال تايمز»

الأكثر مشاركة