مجزرة قرية الطنطورة تحرج اليســار الإسرائيلي
في عام 1948 وقعت قرية الطنطورة ضمن حدود دولة إسرائيل المتشكلة حديثاً. وكانت قرية ساحلية صغيرة سكانها نحو 1200 نسمة، معظمهم من المزارعين العرب وصيادي الأسماك. ومع تصاعد الحرب بين إسرائيل والدول العربية المحيطة بها، أصبحت الطنطورة نقطة عبور مهمة لتهريب الإمدادات للقرى العربية في المنطقة. وقررت الدولة الإسرائيلية المشكلة حديثاً طرد سكان هذه القرية، لأنها كانت موقعاً استراتيجياً مهماً في الطريق بين تل أبيب وحيفا.
وما حدث لاحقاً يعد نصراً عسكرياً مهماً بالنسبة لإسرائيل التي كانت تهدف إلى حماية نفسها، الأمر ذاته الذي اعتبر مجزرة للمدنيين في مأساة حقوق الإنسان التي يطلق عليها الفلسطينيون «النكبة»، وفي كلتا الحالتين لم تعد الطنطورة موجودة في الواقع. وبصورة عادية، فإن الصراع بشأن التفسير التنافسي لما حدث منذ أكثر من 60 عاماً يجرى في المجلات الأكاديمية، لكن معركة الطنطورة تكررت مرات عدة، وآخر هذه المناوشات كانت في واشنطن العاصمة.
البحث عن الحقيقة يقال عادة إن الرابح هو من يكتب التاريخ، لكن هذه المقولة تغيرت الآن، إذ إن العديد من الرابحين في عام 1948 أو أبنائهم بدأوا يخبرون قصص أولئك الذين خسروا، وتم طردهم من أرضهم وديارهم. وبالطبع فإن «الخاسرين» كانت لهم الفرص الكبرى كي يرووا قصصهم. وربما تحاول الحكومة الإسرائيلية ومنظمات مثل «كومبا» أن تُبقي قصة النكبة مدفونة في التاريخ أو تقدم نسختها الخاصة بها لهذه الخطيئة الأصلية، التي تعد بكل حق تطهيراً عرقياً. لكن الأعمال التاريخية لأران بابي ومسرحيات موتي ليرنر والأسئلة المطروحة من قبل اليهود الأميركيين الذين رفضوا الرواية التي تقدمها «إيباك»، مازالوا يحفرون في التاريخ بحثاً عن الحقيقة. |
وترعرع الكاتب المسرحي الإسرائيلي موتي ليرنر وهو يسمع القصص التي تروي ما حدث في الطنطورة، وهو يقول «يعرف جميع جيراني وأفراد أسرتي عن هذه المجزرة، حتى إن بعضهم شارك فيها». وأضاف «كانوا هناك وشاهدوها، ولم تكن قصة يرويها الكبار للصغار وإنما الراوي هو من شاهدها»، وكان هذا الرجل مطلعاً على الجدل الناجم عن الأطروحة التي قدمها أحد الطلاب الإسرائيليين عند تخرجه عن الطنطورة، التي تروي تفاصيل ما فعله لواء الأسكاندروني التابع للجيش الإسرائيلي، وكان أفراد من اللواء قد رفعوا دعوة ضد الطالب لأنه يزعم في أطروحته أنه وقعت مجزرة في الطنطورة.
وحوّل ليرنر هذه القصص إلى مسرحية، تحمل عنوان «القبول»، وقرر مسرح جي الموجود في واشنطن العاصمة، في مركز الحي اليهودي، أن يقدم إنتاج أول مسرحية باللغة الإنجليزية في ربيع العام الجاري، وكان هذا المسرح قدم مسرحيات أخرى للكاتب ليرنر لجمهور من واشنطن، وذاعت شهرة الكاتب لأنه يقدم مسرحيات تنطوي على الجدل والتحدي في ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط. وكان من الطبيعي بالنسبة للمسرح جي أن يعرض هذا الحدث التاريخي المؤلم وآثاره في حياة الإسرائيليين والفلسطينيين الآن.
لكن لم يوافق الجميع على المسرحية، وحاولت جماعة تطلق على نفسها «كومبا» منع تقديمها، وحسبما ذكرته الجماعة فإنه «لا يوجد مكان في مراكز تجمعنا ومؤسساتنا اليهودية للدعاية المضللة ضد إسرائيل، كما أن استخدام التبرعات الخيرية من أجل دعم نشاطات ضارة بدولة إسرائيل يعد انتهاكاً للثقة التي يضعها المانحون والداعمون في هذه المؤسسات»، وعمدت «كومبا» إلى اختصار العرض إلى ثلاثة أسابيع فقط ربما انتهت بداية الشهر الجاري.
وعند قراءة وصف المسرحية الذي كتبته «كومبا» فإن المرء يتوقع أنها مسرحية تمثل دعاية سياسية من العهد السوفييتي، لكن المسرحية بعيدة كل البعد عن طرح الرأي الواحد، وبعد جهود كبيرة تم تقديم مسرحية «القبول»، وهي تقدم رأي الفلسطينيين والإسرائيليين لما حدث عام 1948 في قرية الطنطورة، مع تعاطف مع الطرفين. والسؤال المركزي الذي تطرحه المسرحية مفاده: لتحقيق التعايش المشترك هل يتعين علينا دفن التاريخ والمضي قدماً، او نبش التاريخ، الأمر الذي ينطوي على مخاطر إعادة الصراع من جديد؟ الجواب على ذلك هو: الكشف عن الحقيقة وإنجاز المصالحة، لكن هذا الخيار يبدو غير وارد في إسرائيل حالياً.
وفي الواقع فإن الجهود التي بذلها المجتمع اليهودي من أجل منع عرض المسرحية، أو إقامة نقاش حولها، يعكس القلق الذي يعيشه هذا المجتمع. ولسنوات عدة خلت احتكرت لجنة العلاقات العامة الإسرائيلية الأميركية المعروفة باسم «إيباك» النقاش في الولايات المتحدة حول إسرائيل، لكن الرغبة الدائمة في إعادة إحياء عملية السلام، وتوجه الحكومة الإسرائيلية نحو اليمين بصورة صارخة، خصوصاً في عهد بنيامين نتنياهو، إضافة إلى السياسة الخارجية التي استمرت ثماني سنوات في إدارة الرئيس جورج بوش الابن، جميعها أدت إلى تهديد سيطرة «إيباك».
وتأتي أهم التحديات التي تواجهها «كومبا» و«إيباك» من داخل المجتمع اليهودي، وهم من يطلق عليهم الصهيونية الليبرالية، التي تواجه تحديات في المفاهيم، فقد أشار الحاخام اليهودي بريان والت ــ على سبيل المثال ــ إلى أن الصهيونية الليبرالية تحجم عن معالجة الظلم الممنهج في إسرائيل. وقال «كالعديد من الصهاينة التقدميين فإنني أتجاهل هذا الظلم الممنهج في حين أقوم بإصلاح بعض أعراضه، مثل تدمير البيوت وقلع الأشجار، والمزيد من هذه الأعمال». وكتب يقول «وكالآخرين مثلي، فإننا نتجاهل الدلائل الخفية والمدمرة للنكبة، فالعديد من البلدات والقرى والكيبوتزات التي أحبها في إسرائيل، قد تم إنشاؤها فوق بقايا القرى الفلسطينية التي اندثر سكانها، وتم تأميم ممتلكاتهم أو دمرت».
وترجع هذه المعضلة إلى عام 1948، فقد ذكرت صحيفة «ديلي بيست» الأميركية، أن رفض معالجة النكبة هو واحد من ثلاثة تناقضات تعانيها الصهيونية الليبرالية. وأشار إلى أن «الصهيونية تهدف إلى تحقيق الأغلبية لليهود في إسرائيل، وذلك من خلال الطرد الجماعي للمدنيين عن طريق ترهيبهم، كما أنها كرست الإنكار الدائم لحقوق الإنسان في عودة اللاجئين الفلسطينيين».
ويزداد الألم الناجم عن الجدل حول الصهيونية وإسرائيل في داخلها. وصدر أخيراً كتابان أحدهما للصحافي الليبرالي من صحيفة «هآرتز» أري شافيت، والثاني للمؤرخ الشهير أيلان بابي، اللذين يسلطان الضوء على هذا الجدل لدى اليسار الليبرالي على الأقل.
جون فيفر - كاتب في «فورين بوليسي إن فوكس»