تهميش الأحياء الفقيرة في تـــونس يفاقم «ظاهرة الإرهاب»

لم يغير التحول السياسي، الذي شهدته تونس أخيراً، واقع البلد في الوقت الذي تسعى فيه السلطات إلى الحفاظ على الأمن العام. وشهدت العاصمة التونسية، مارس الماضي، هجوماً دموياً على متحف وطني، الأمر الذي أثار قلق التونسيين من تنامي ظاهرة التطرف. ولمواجهة ذلك شددت السلطات إجراءاتها الأمنية لتضييق الخناق على المتشددين، إلا أن هذه التدابير لا تلقى ترحيباً من قبل الجميع، في حين يتحفظ عليها ناشطون في مجال الحقوق والحريات. ويعتقد أن نحو 3000 تونسي سافروا للقتال في سورية والعراق، لتكون تونس بذلك أكبر بلد يصدر المقاتلين إلى مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وحول العالم. ووفقاً لبيانات رسمية، تم منع 12 ألفاً و490 شاباً من التوجه إلى القتال، خلال العامين الماضيين. وقدر متحدث باسم وزارة العدل الليبية عدد التونسيين الذين انضموا إلى الجماعات المسلحة في ليبيا، بأكثر من 2000.

تهميش الشباب

يعتبر الشباب في الأحياء الفقيرة من الشرائح الأكثر تهميشاً في تونس، ولا يلوح في الأفق ما يؤشر إلى أن هذا التهميش سينتهي، أو على الأقل سيتراجع خلال المرحلة القادمة. ويعتقد محللون أن السياسيين لايزالون ينظرون، ويتعاملون مع هذه الفئة على أنها مجرد خزان انتخابي، ينتهي الاهتمام به بمجرد انتهاء عمليات الاقتراع. واللامبالاة التي يبديها الشباب بسير الحملات الانتخابية دليل على انعدام الثقة ليس فقط في السياسيين وإنما في العملية الانتخابية بأسرها. وتبقى الأحزاب السياسية عاجزة عن التعامل بشكل جيد مع الشباب، من خلال تغييبهم عن مراكز صنع القرار، وعدم تمكينهم من المشاركة الفاعلة في الحياة العامة، ما عمّق الإحباط والخيبة في صفوفهم.

وفي الماضي، كانت الحريات الدينية مقيدة بوحشية في ظل نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وشمل التقييد جميع مناحي الحياة، بما في ذلك التجمع والحق في الاعتقاد. وتم ذلك في الوقت الذي استشرى فيه الفساد الحكومي إلى أن انفجر الشارع عام 2011. وبعد الثورة، منحت السلطات الجديدة السجناء السياسيين العفو، ومن بينهم كثير من المتطرفين، إلا أن الفراغ الذي أعقب الثورة أسهم في ازدهار الجماعات الدينية المتطرفة.

وبدافع من الهجوم الإرهابي على متحف «باردو»، بالإضافة إلى تصاعد الاعتداءات الإرهابية على القوات الحكومية في جميع أنحاء البلاد، بدأت الحكومة في الهجوم المضاد، وتم التركيز على المؤسسات الدينية المتباينة والمتحاربة أحياناً في ما بينها، وأعلنت وزارة الشؤون الدينية، قبل أيام، إنشاء سجل مركزي للأئمة، فضلاً عن قواعد جديدة للحدّ من أنشطة «لجان الصيانة»، التي يشتبه في أنها تجمع الأموال لأنشطة مسلحة في أماكن أخرى، كما أعلنت حملة أخرى على المساجد في البلاد بنيت بشكل غير قانوني؛ الأمر الذي يدفع التيارات الدينية المتطرفة في تونس، أيضاً، إلى الانزواء والتهميش، كما يتم إغلاق المساجد دون سابق إنذار، وتوجيه التحذيرات والتهديدات بالاعتقال للأئمة الذين لا يلتزمون بالتعليمات التي تصدرها الوزارة المعنية.

ولكن بدلاً من إيقاف هجرة الشباب التونسي إلى ساحات القتال، فإن حملة القمع التي شنتها الحكومة الحالية على المؤسسات الدينية المنشقة، تبرر الخطب المتطرفة لأولئك الذين يقولون إن «الدولة الديمقراطية العلمانية» عدو للدين، الأمر الذي يخدم بالتأكيد العاملين على تجنيد الشباب للقتال. والأمر لا يتوقف عند ذلك ففي جميع أنحاء العاصمة، تنتشر نقاط التفتيش في المدينة، والأسلاك الشائكة التي تحيط المباني العامة والمدافع الرشاشة التي توجد بداخلها، والأهم من ذلك التضحية البطيئة بالحريات السياسية والدينية، من أجل تحقيق الأمن.

ونتيجة لذلك استغل المتشددون المحليون والأجانب هذا الوضع، لتأسيس «إقطاعيات» في الأحياء الفقيرة وبات لديهم الكثير من المناصرين، بينهم أصحاب سوابق جنائية ومجرمون خطرون، ولم تصل حملة استعادة هيبة الدولة بعد إلى هذه الأحياء المنسية. وعلى بعد كيلومترات قليلة من متحف باردو في العاصمة، يوجد حي «التضامن»، الذي لا يبدو محل اهتمام السلطات التي فضلت تركه للسلفيين. وتروي زهيرة جبالي، التي تسكن الحي، أن ابنها محمد التحق بتنظيم «جبهة النصرة» بسورية في 2013، بعد أن كان يرتاد المسجد في الحي ويسمع الخطب التحريضية، وكان محمد الذي كان يعمل خبازاً، يقضي أوقات فراغه في صناعة الأواني الخزفية ليزيد دخله الشهري، وتقول والدته إنه كان شاباً جيداً، ويتعامل مع الجميع باحترام، ولم يخبر الابن أمه بأنه متوجه إلى سورية للقتال، وجعلها تعتقد أنه ذهب إلى ليبيا للعمل بأحد فنادق العاصمة طرابلس. وبعد 20 يوماً من مغادرته، اتصل بوالدته من سورية، وطمأنها أنه سيعود قريباً. وفي اليوم نفسه اتصل شخص بالسيدة زهيرة وأخبرها بأن ولدها سقط قتيلاً في ساحة المعركة، عندما تعرض ورفقاؤه للقصف من قبل قوات النظام بحلب.

حي «التضامن» هو واحد من أكبر أحياء العاصمة التونسية وأكثرها فقراً، ونسبة البطالة فيه تصل إلى أرقام قياسية، وظاهرة الجريمة منتشرة فيه على نطاق واسع، وقد تفاعل مع الثورة التي أطاحت الرئيس بن علي بشكل لافت، ولاتزال آثار الانتفاضة الشعبية محفورة على جدران المنازل والأزقة المحيطة بها. الحي يبعد نحو 15 كيلومتراً عن وسط العاصمة، وتشكل على وقع موجات الهجرة الداخلية التي عرفتها تونس بداية سبعينات القرن الماضي، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، حيث انتقلت مئات العائلات من قرى فقيرة إلى مشارف العاصمة، وبالإضافة إلى مظاهر البؤس والبطالة والمخدرات والإجرام، يتميز الحي بكونه أحد معاقل الفكر المتشدد، ما جعل وسائل الإعلام التونسية تصفه بأنه «قنبلة اجتماعية موقوتة»، من شأنها أن تنفجر بأي وقت.

لم تصدق زهيرة الخبر بداية الأمر، وتنحي باللائمة على إمام مسجد الحي، «بعد الثورة تم تغيير الإمام»، موضحة «اليوم كلهم سلفيون، وهم يجندون أبناءنا للقتال، إن هؤلاء هم سبب المشكلة». وتؤكد الأم أنها تسمع نداءات الأئمة عبر مكبرات الصوت، يوم الجمعة، وهم يدعون الشباب لمساندة «إخوانهم في سورية».

قد تكون بعض المساجد أماكن لتجنيد المقاتلين بالفعل، لكن إغلاقها بالقوة من غير المرجح أن يسهم في حل مشكلة الإرهاب المتنامية في تونس. ففي الوقت الراهن يسعى «الخطباء المتشددون» لاحتواء الشباب المهمش وإعطائهم فرصة الاندماج في مجموعات محلية منظمة، وربما فرصة «بلوغ المجد» في ساحات المعركة المختلفة، في ليبيا وسورية والعراق. إغلاق المساجد قبل التعامل مع الخطاب المتشدد ومعرفة المطالب الرئيسة، يعني تحويل هذه الضواحي إلى مناطق تدار ذاتياً. وفي غضون، ذلك تأسست منظمة غير حكومية تسعى لتكون همزة وصل بين عائلات الشباب، الذين غادروا للقتال، والحكومة التونسية. ويقول رئيس المنظمة، محمد إقبال بن رجب: «لدينا العديد من حالات الشباب الذين تم دفعهم إلى التطرف بشكل مباشر أو غير مباشر في المساجد»، موضحاً «ومع ذلك فإن إغلاقها لن تكون له جدوى، وسيعزز هذا الإجراء خطاب الكراهية». وفي مناطق مثل حي «التضامن»، يقدم المتشددون بديلاً عن مجتمع يعاني آفات عدة أهمها الجريمة والبطالة والفقر. والسماح لهؤلاء المتطرفين بالهيمنة على هذه المناطق لا يعتبر إخفاقاً أمنياً بقدر ما هو فشل حكومي بالأساس.

الأكثر مشاركة