إبراهيم عسيري يقض مضجع الولايات المتحدة
نجح هجوم دبرته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه)، الأسبوع الماضي، بطائرة من دون طيار في اليمن، في القضاء على زعيم تنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، ناصر الوحيشي، الذي كانت تطارده واشنطن سنوات عدة، لكن يبدو أن القضاء على أحد قادة القاعدة ليس كافياً لتخفيف التهديد الذي يشكله التنظيم على الولايات المتحدة ومصالحها، فلايزال الخبير الكيماوي صانع المتفجرات، وأكثر الأعضاء مراوغة وخطراً، إبراهيم عسيري، حراً طليقاً. ويعتقد خبراء الـ«سي آي إيه» أنه يمثل تهديداً جدياً، فهو الرجل الذي كاد أن ينجح في تفجير طائرة ركاب أميركية، وحاول أن يغتال مسؤولاً سعودياً رفيع المستوى.
صانع المتفجرات ولد الخبير الكيماوي وصانع المتفجرات، في تنظيم القاعدة، إبراهيم عسيري، في عائلة عسكرية في الرياض عام 1980، وتدرب على العمل كيميائياً، واعتقلته السلطات السعودية بعد أن حاول التسلل إلى العراق لمحاربة القوات الأميركية هناك. عام 2009 صمم عسيري قنبلة لأخيه الأصغر عبدالله، والذي حاول بواسطتها اغتيال أحد كبار المسؤولين السعوديين، حيث خبأها في «مستقيمه»، وكان هدفه المقصود هو ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن نايف، الذي كان في ذلك الوقت نائباً لوزير الداخلية، وأدى الانفجار الناتج عن العبوة إلى شطر عسيري الأصغر إلى نصفين، ولم يصب الأمير نايف إلا بجروح طفيفة، وهو ما يشير إلى مهارات عسيري المبكرة في هذا المجال، حيث تم تفجير العبوة بفتيل كيميائي لا يستطيع جهاز الكشف عن المعادن رصده.
صورة أرشيفية لابراهيم عسيري. |
ويقول أكثر من محلل إن الوحيشي استطاع قيادة المجموعة، لكنه لم يكن في الواقع يستطيع ابتكار متفجرات متطورة تقض مضجع مسؤولي مكافحة الإرهاب الغربيين، فقد استطاع عسيري أن يصمم بكل دقة متفجرات لا تستطيع رصدها حتى أحدث أجهزة الكشف عن المتفجرات والمعادن، ولا تستطيع الكلاب البوليسية المدربة العثور عليها عن طريق حاسة الشم القوية، فهذه المتفجرات ابتكرها هذا الكيماوي السعودي، الذي ظل في الخفاء. ويقول أحد المسؤولين الأميركيين إن عسيري، على الرغم من المحاولات الأميركية المتعددة للقضاء عليه، لايزال على قيد الحياة. ويؤكد النائب السابق لمدير الـ«سي آي إيه»، مايكل موريل، عندما سأله الصحافيون عن الخبرة التقنية التي يتمتع بها عسيري كصانع قنابل، إن «مهارته تظل القوة الرئيسة للمجموعة، فهو الأفضل من بينها».
ويقول المسؤول السابق رفيع المستوى في الـ«سي آي إيه»، بروس ريدل، إن عسيري يشكل تهديداً كبيراً للولايات المتحدة، فهو كلما ظل ناشطاً استطاع أن يدرب مزيداً من المتشددين على فن صناعة العبوات الناسفة المتطورة، التي لا تستطيع تقنيات الرصد الغربية اكتشافها. ويضيف أن «عسيري يشكل خطراً، ليس فقط بسبب مهاراته، بل لأنه درب كادراً من صانعي القنابل يستطيعون خلافته في هذا المجال».
ورحّب البيت الابيض، الثلاثاء الماضي، بمقتل الوحيشي، باعتباره إنجازاً كبيراً، إذ ذكر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، نيد برايس، أن ذلك يمثل «ضربة كبيرة للقاعدة في جزيرة العرب»، وتنظيم القاعدة على نطاق أوسع. ويضيف برايس أن عملية الـ«سي آي إيه» هذه «أزالت من ساحة المعركة زعيماً إرهابياً من ذوي الخبرة، ويضعنا قريباً من الهيمنة على هذه الجماعات وهزيمتها في نهاية المطاف».
ويعتقد كل من موريل وريدل أن «القاعدة في جزيرة العرب» قد يكون في الواقع أكثر خطورة من أي وقت مضى، لأنه لايزال قادراً على الاستفادة من العنف وعدم الاستقرار السياسي الذي يعصف باليمن، المقر الرئيس له في الجزيرة العربية، حيث أجلت الولايات المتحدة الجزء الأكبر من أفراد مخابراتها وعملياتها الخاصة خارج اليمن في وقت سابق من هذا العام، بعد أن استولت الميليشيات الحوثية المتمردة المدعومة من إيران على العاصمة صنعاء ومساحات واسعة من البلاد.
ويقول ريدل إن «القاعدة في جزيرة العرب» أصبح اليوم أقوى من أي وقت مضى، حتى من دون الوحيشي، بسبب الفوضى في اليمن، ويضيف بأنه «يمتلك أخطر المعاقل الآن في أقصى شرق البلاد». وينبع التهديد الذي يمثله التنظيم، في جزء كبير منه، من قدرة عسيري على الهروب باستمرار من القوة المشتركة لـ«سي آي إيه» وقيادة العمليات الخاصة المشتركة السرية ومواصلة عمله.
وظل عسيري على قائمة أكبر المطلوبين في الغرب منذ عام 2009، عندما حاول المتشدد النيجيري المرتبط بالقاعدة في جزيرة العرب، عمر فاروق عبدالمطلب، تفجير طائرة الركاب، نورث ويست ايرلاينز، فوق مدينة ديترويت، باستخدام قنبلة مخفاة داخل ملابسه الداخلية، صممها وطورها عسيري. هذه المتفجرات، التي تعطلت عن العمل، تتألف من حزمة من مسحوق متفجر، تم تصميمها لتنفجر بعد حقنها بحامض. بيد أن المسؤولين الأميركيين فوجئوا من حقيقة أن عبدالمطلب استطاع تمريرها داخل المطار عبر تدابير أمنية متعددة المستويات، من دون اكتشافها من أي مستوى من تلك المستويات.
ويقول مسؤولون استخباراتيون أميركيون، إن عسيري بنى أيضاً زوجاً من القنابل، وجدت طريقها إلى متن طائرة شحن متجهة إلى الولايات المتحدة، لكن تم اعتراضها في بريطانيا ودبي. واكتشف المسؤولون الغربيون الذين فحصوا تلك المتفجرات أنها كانت مخبأة داخل خراطيش حبر لطابعة من نوع «هيوليت باكارد»، لضمان مرورها إلى داخل الطائرة من دون اكتشافها.
حاولت الولايات المتحدة سنوات عدة القضاء على عسيري، وأثبتت التقارير المتكررة عن مقتله بأنها مبالغ فيها إلى حد كبير. ففي عام 2011، صرح مسؤولون أميركيون، لم يُكشف عن اسمائهم، بشكل خاطئ لوكالة «أسوشيتد برس»، أن عسيري لقي حتفه في هجوم بطائرة من دون طيار استهدف أساساً الداعية الأميركي، أنور العولقي. وفي عام 2014 صرح مسؤول يمني رفيع المستوى لمحطة «سي إن إن» الاخبارية بأن عسيري قُتل في تبادل لإطلاق النار مع القوات الخاصة اليمنية، وهو التقرير الذي ثبت أيضاً زيفه.
في غضون ذلك، واصل عسيري تحسين وتطوير مهاراته، ففي يوليو 2013، قدم رئيس إدارة أمن وسائل النقل في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، جون بيستول، وصفاً مفصلاً بشكل غير عادي عن قنبلة الملابس الداخلية التي صممها عسيري، والتي كانت جزءاً من محاولة لإسقاط طائرة الركاب الأميركية في الذكرى السنوية الأولى لمقتل زعيم القاعدة السابق، أسامة بن لادن. فقد تم إحباط تفجير الطائرة بمساعدة مخبر عن «القاعدة في جزيرة العرب»، وتم في ما بعد جلب القنبلة لدراستها من قبل الـ«سي آي إيه».
وشرح بيستول أمام حشد في منتدى الأمن في آسبن، أن القنبلة تم تصميمها بعناية لتشق طريقها من دون ان يستطيع رصدها أي من الإجراءات الأمنية القياسية، مثل أجهزة الكشف عن المعادن، والكلاب البوليسية المدربة على اكتشاف القنابل. واستخدم عسيري في تلك القنبلة «نظام تفجير مزدوج»، يستطيع خلط السائل المتفجر بداخلها، ومغلفة بمادة تستخدم في المنازل لمنع تسرب أنابيب المياه، وذلك لإخفاء رائحة الكيماويات ومنع أي أبخرة من التسرب، وأطلق بيستول على هذه القنبلة «ملابس داخلية 2»، في إشارة إلى الهجوم الفاشل عام 2009.
ويضيف أن «جميع معداتنا للكشف عن المتفجرات غير مصممة للكشف عن تلك القنابل، وأن جميع كلابنا البوليسية الـ800 ليست مدربة على اكتشاف هذا النوع الخاص من المواد المتفجرة».