خلافات أميركية على تحديد التهديد الأكبر للأمن القومي
يتساءل الكثيرون عن كيفية تصنيف الإدارة الأميركية الحالية لأهم المخاطر المحدقة بأمنها القومي. والجواب قد يختلف حسب الجهة التي تجيب عن هذا السؤال الحساس. والرأي الرسمي في ما يخص التهديدات الكبرى يتغير بسرعة، وفقا لأولويات بيروقراطية وتفكير مشوش. ولكن من الذي أثار هذه المسألة في الأساس، فالمسؤولون في البيت الأبيض لا يتفقون في ما بينهم حول أكبر المخاطر التي تهدد الولايات المتحدة؟ وبالتالي كيف يتسنى لهم أن يطوروا استراتيجية صحيحة، وأن يستخدموا الموارد المناسبة؟
فلنبدأ بالمؤسسة العسكرية الأميركية، في الشهر الماضي، وضعت وزارة الدفاع (البنتاغون) روسيا على رأس قائمة التهديدات للأمن القومي الأميركي، ووضع القائد الجديد للقوات الأميركية المشتركة، الجنرال جوزيف دنفورد، روسيا على رأس اللائحة كأول تهديد لأميركا، خلال جلسة سماع علنية في الكونغرس، أتبعها بكوريا الشمالية، والصين، ثم تنظيم «داعش»، ووافق معظم القادة العسكريين على هذا الاتجاه في مداخلاتهم أمام النواب.
عودة التهديد الروسي اعتبر الجنرال مارك ميلي، وهو أحد المرشحين لتولي رئاسة هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأميركية، روسيا أكبر تهديد لأمن بلاده، وكان ذلك خلال جلسة سماع في الكونغرس قبل ثلاثة أسابيع. وقال ميلي إن روسيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تملك ترسانة نووية «قادرة على تدمير الولايات المتحدة». وفي استعراضه تهديدات أخرى تحدق بأمن البلاد، تحدث الجنرال الأميركي عن الصين وكوريا الشمالية، وإيران، وتنظيم «داعش». ودعا المسؤول العسكري الرفيع إلى تزويد أوكرانيا بـ«أسلحة دفاعية»، إضافة إلى دعمه خطط تعزيز وجود القوات البرية الأميركية في أوروبا، على اعتبار أن هذا الإجراء ضروري، لطمأنة حلفاء واشنطن في الحلف الأطلسي، القلقين من تصرفات روسيا. يأتي ذلك في الوقت الذي نشرت فيه تقارير عن هجمات تجسس إلكترونية، قام بها صينيون استهدفوا نحو 600 شركة خاصة وحكومية، على مدار خمس سنوات، بالإضافة إلى تجمعات في المراكز الصناعية الأميركية.
الجنرال مارك ميلي يعتبر روسيا أكبر تهديد لأمن بلاده. أ.ب |
واتخذت العلاقات مع موسكو منعطفاً خطراً، إذا نظرنا إلى اجتياح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا، إضافة إلى التدريبات الجوية المتهورة في المجال الجوي لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وفي غضون ذلك، تشعر «البنتاغون» بالغضب نتيجة خفض الميزانية، وربما يكون دق طبول الحرب الباردة أمراً جيداً، للحصول على المزيد من الأموال من الكونغرس. لكن فكرة أن روسيا هي أكبر تهديد لأميركا أمر لا يتفق معه الكثير من القوى الأخرى المهمة في واشنطن، من بينها البيت الأبيض. ووفقاً للمتحدث باسم هذا الأخير، جوش إيرنست، فإن تصريحات الجنرال دنفورد تعكس «وجهة نظره هو، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر أو إجماع محللي فريق الأمن القومي التابع للرئيس باراك أوباما».
ففي سبتمبر الماضي، قال أوباما: «التهديدات الكبرى حالياً تنبع من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تستغل الجماعات المتطرفة غياب العدالة لتحقيق مكاسبها الخاصة»، ولكن أي الجماعات تحديداً، «القاعدة» أم «داعش»؟
ولفترة قريبة من الزمن، كانت الإدارة الأميركية تعتبر أن تنظيم «القاعدة» تهديد حقيقي، لأنه شن هجمات على الأراضي الأميركية ولايزال يخطط لذلك، في حين أن «داعش» يركز على السيطرة على المزيد من الأراضي في العراق وسورية من أجل إنشاء دولته. العديد من المتخصصين في مجال الإرهاب ومكافحة التجسس لايزالون يحملون هذه النظرة، وحذروا من أن قادة «القاعدة» في اليمن وسورية يستغلون حالة الفوضى في هذه البلدان، من أجل التمهيد لشن هجمات أكثر تدميراً. في المقابل، أعلن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف.بي.آي)، جيمس كومي، في أواخر الشهر الماضي، أن «داعش» يمثل التهديد الأكبر. وقال أمام المشاركين في منتدى «آسبن» للأمن بأنه يشعر بالقلق، تحديداً من «حملة (داعش) على شبكات التواصل الاجتماعي، التي تستخدم لاصطياد الشباب في الولايات المتحدة، إما للانضمام للقتال في سورية، أو العراق، أو شن هجمات داخل أميركا». وفي فبراير الماضي، أشار مدير المخابرات القومية، جيمس كلابر، إلى التهديدات الموجودة في العالم، وتشمل روسيا باعتبارها «الخطر الرئيس»، تليها مكافحة التجسس، ثم الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل.
يبدو أن وجهات النظر تختلف، إلى حد ما، باختلاف المسؤوليات ودوائر اتخاذ القرار، فكما أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لديه دور مهم في منع وقوع هجمات داخل الولايات المتحدة؛، فإن لدى وزارة الدفاع قوات منتشرة ضد التنظيمات المسلحة، بما في ذلك «القاعدة» و«داعش»، وهي مسؤولة أيضاً عن الدفاع عن حلفاء أميركا في حلف شمال الأطلسي، في حال أصبحت روسيا أكثر عدوانية مع دول البلطيق، أو دول حليفة أخرى.
ويبدو أن قناعة القادة العسكريين ازدادت باحتمال الحرب مع روسيا، الدولة الوحيدة التي تملك ترسانة نووية موازية لما لدى الولايات المتحدة، وأن الخطر أعلى في الوقت الحالي مما كان عليه في الماضي، ولاتزال الإدارة ملتزمة بالعمل مع موسكو، عندما يكون ذلك ممكناً لتحقيق نتائج سلمية، كما يجب أن يكون عليه الأمر. وفي ذلك يقول رئيس هيئة الأركان السابق، الجنرال مارتن ديمبسي، في ما يخص الاستراتيجية العسكرية للعام الجاري: «حالياً، لا يمكن التنبؤ ببيئة الأمن العالمي، أكثر من أي وقت مضى خلال أربعة عقود قضيتها في الخدمة». ويعتقد محللون أن القيادة الأميركية أمام تحدٍ كبير، يتمثل في تحديد أولوياتها المقبلة.