الجلبي.. شخصية تأرجحت بين الوطنية والخيانة والفساد

يصفه البعض بالنشط الدؤوب، الذي ليس له هم سوى إطاحة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، ويلقي عليه البعض باللوم بسبب الغزو الأميركي الكارثي للعراق عام 2003، الذي لم تعرف بعده البلاد استقراراً حتى الآن.

الغاية تبرر الوسيلة

 أحمد الجلبي سياسي عراقي قوي، جمع معلومات خاطئة حول برنامج نووي مزعوم يمتلكه العراق، افتضح أمره في ما بعد، ساعد في إقناع الولايات المتحدة وحلفائها بغزو البلاد. حليف طويل الأمد للولايات المتحدة، صار ذات مرة من المقربين للبيت الأبيض، وقدم للمسؤولين الاستخباراتيين والسياسيين والصحافيين شهادات لشهود عيان، يدعون أنهم على علم تام ببرنامج أسلحة الدمار الشامل العراقي. لكن بعد غزو العراق عام 2003، أثبتت عملية بحث واسعة في المرافق العسكرية العراقية عدم وجود مثل هذا البرنامج، وتحولت روايات الشهود إلى محض افتراءات، إلا أن الجلبي لم يعتذر عن تلك الأكاذيب، مدعياً أن إطاحة «الدكتاتور صدام حسين تبرر جميع الوسائل».

 

كان أحمد الجلبي، الذي توفي بأزمة قلبية في العاصمة العراقية بغداد، الثلاثاء الماضي، عن 71 عاماً، واحداً من أقدر الشخصيات العراقية، وأكثرها إثارة للجدل، وعرضة لسوء الفهم، ولعب دوراً مركزياً في إسقاط صدام حسين، وأحد المؤسسين للعراق الحديث.

 كان الجلبي رجلاً ذا حس استخباراتي عالٍ، واستطاع أن يستقطب العديد من الأصدقاء والحلفاء، وأن يستعدي عليه أيضاً العديد من الشخصيات والجهات المتباينة جداً، بدءاً من صدام حسين، وصولاً إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أيه)، ووزارة الخارجية البريطانية، وجميع هؤلاء أدانوه بشراسة.

أخبرني أحد الدبلوماسيين في العاصمة العراقية بغداد ذات مرة (الحديث للكاتب)، قائلاً: «أعتقد أن الجلبي هو الشر بعينه»، قبل أن يمضي في تمجيد هذا السياسي العراقي عديم الكفاءة سيئ السمعة، الفاسد. كان لدى معظم الناس دائماً آراء قوية حيال الجلبي، لأنه كان شخصية لا يستطيع أحد أن يتجاهلها، ولأنه كان بلا شك فعالاً ونشطاً، أمضى جزءاً كبيراً من حياته في مساعٍ لا هوادة فيها لإطاحة صدام حسين، غير مكترث بشأن الوسائل التي استخدمها لتحقيق هذه الغايات. الاتهام الموجه ضد الجلبي، بعد عام 2003، هو أنه استدرج الولايات المتحدة وحلفاءها لتنظيم غزو كارثي للعراق، من خلال افتعال مبررات، أو التلاعب بالأدلة والحقائق، على أن صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل في ذلك الوقت، وفي ما بعد أصبح كبش فداء للسياسيين والصحافيين، الباحثين عن شخص آخر ليلقوا فشلهم وأكاذيبهم عليه. ويبدو لي أن هذا الاتهام سخيف، لأن عمل السياسي في المنفى هو تمرير المعلومات الضارة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، عن الحكومة التي يحاول هو الإطاحة بها. الجلبي ابن عائلة ثرية في بغداد، هرب وهو صغير السن، عندما تمت إطاحة النظام الملكي في البلاد، حصل على درجة البكالوريوس من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أميركا عام 1965، ثم واصل دراسته ليحصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة شيكاغو.

التقيت معه للمرة الأولى في العاصمة البريطانية لندن، نحو عام 1992، عندما أسس المؤتمر الوطني العراقي كمنظمة تستظل بها المعارضة المناهضة لحكم صدام. وكان الرئيس العراقي قد سحق في ذلك الوقت الشيعة والانتفاضات الكردية التي اشتعلت عام 1991، وكان واضحاً لجميع خصوم صدام أن الطريقة الوحيدة للتخلص منه هو دعوة الأميركيين لغزو العراق. وكان مقصد الجلبي هو المقصد نفسه الذي ظل يسعى لتحقيقه المعارضون الآخرون، ولا يختلف عنهم سوى في الاهتمام والعمل الدؤوب لتحقيق هذه الغاية.

انتقل إلى واشنطن، واستقطب حوله السياسيين والصحافيين، وعمل مع جماعات الضغط السياسي الأميركية، وصادق أي شخص يستمع له، ولكنه مال بشكل خاص إلى الجمهوريين. ساعد في تمرير قانون تحرير العراق عام 1998، والذي يلزم الولايات المتحدة باستبدال النظام في العراق بنظام ديمقراطي، ولكن علينا أن نضع في الاعتبار أن أياً من هذه الأنشطة أو القوانين لم تكن تفضي لغزو العراق، لولا أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. التقيت الجلبي مرات عدة، خلال هذه السنوات، ودائماً أجد حكمه السياسي أكثر وضوحاً، عدا في المسائل المتعلقة بمسيرته السياسية الخاصة. وأذكر أنه قال لي ذات مرة عن العراق، أنه «من المستحيل تقريباً إسقاط الحكومة التي يحميها العنف والتسلط، وجهاز المخابرات القوي». ويبدو لي هذا الزعم غريباً، لأنه كان في الواقع يحاول فعل نقيض ما ذهب إليه، عندما اتخذ له مقراً في كردستان العراق، وخطط لشن هجمات ضد صدام، وحاول إثارة تمرد في الجيش العراقي. وأعتقد أن الهدف من هذه المحاولات هو توريط الأميركيين مرة أخرى في العراق، ولكن لم تفضِ هذه المخططات لشيء. كان الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003 يعنى المد العالي للجلبي، فقد استغل هو والأميركان بعضهما بعضاً، ولكن لم يثق أي طرف بالطرف الآخر. إذ قال لي في ما بعد إن المشكلة الكبرى أمام الولايات المتحدة عام 2003، هي المشكلة نفسها عام 1991 في نهاية حرب الخليج، بمعنى أن أميركا عندما تتخلص من نظام صدام حسين، فإن خليفته الطبيعي في الحكم هو الشيعة، وهم بالتالي قريبون جداً من إيران، لهذا كان الحل الأميركي لهذه المشكلة ليس فقط غزو العراق، ولكن أيضاً احتلاله، وهذا هو أصل كل المصائب اللاحقة، وهناك سبب واحد في أن العديد من المسؤولين الأميركيين لا يحبون الجلبي، ذلك لأنهم لم يستطيعوا السيطرة عليه، والكثير منهم يفضل الوكلاء الذين يمكنهم الانصياع للأوامر. وكانوا يشكون في علاقاته الطيبة علناً مع إيران، على الرغم من حقيقة حاجة الولايات المتحدة الملحة، لإيجاد همزة وصل لها مع طهران، وكان الجلبي هو أنسب شخص لذلك، إلا أن جميع قدرات الجلبي عملت ضده، بسبب نشاطه وخشية منافسيه المحتملين منه، والذين أجمعوا على استبعاده من السلطة، والتهمة الأخرى الموجهة إليه هي أنه كان فاسداً، وهذا الاتهام دائماً يأتي من الساسة العراقيين الذين تحولوا بأعجوبة إلى مليونيرات، بعد قضاء وقت قصير في مناصبهم. وعادة تدور الادعاءات حول فساده، الذي تسبب في انهيار بنك البتراء بالأردن في ثمانينات القرن الماضي، وكثيراً ما نفى الجلبي هذه الاتهامات، قائلاً إن البنك تم استهدافه من قبل البنوك الأردنية الأخرى، ومن قبل المسؤولين في الدولة.

 قضى معظم وقته قبل وفاته في بغداد، وكان يشرف ذات مرة على نظام لجان الطوارئ، وذهبت معه مرة إلى جسر فوق نهر دجلة دمره انفجار شاحنة ملغومة، وكان يبحث في كيفية إعادة إنشائه، كنت متأكداً جداً من أن الجانب الآخر من النهر في ذلك الوقت كان في أيدي المسلحين، الذين يمكنهم التعرف إلى الجلبي وقتله بسهولة، فقبعت وراء الرصيف المكسور من الجسر إلى أن فرغ من تفقده. ظلت رؤيته السياسية واضحة إلى النهاية، وحدثني مطلع العام الماضي، قائلاً إن الجيش العراقي سينهار قريباً جداً، بعد أن يتعرض لهجوم من قبل تنظيم «داعش». لم أستطع تصديق ذلك تماماً إلى أن احتل «داعش» الموصل بعد بضعة أشهر، وأسس دولته هناك.

الأكثر مشاركة