تحالفات خاملة تحيا من جديد في الشرق الأوسـط

على الرغم من أنهما كانتا حليفتين في وقت ما، أصبحت تركيا وإسرائيل الآن على خلاف مع بعضهما بعضاً، منذ ما يقرب من عقد من الزمان، إلا أن جليد العلاقة الباردة هذه قد يكون على وشك الذوبان لأسباب عدة، فمن ناحية قلصت الولايات المتحدة وجودها في منطقة الشرق الأوسط، ويتنافس لاعبان محليان لملء الفراغ الذي تركته وراءها. ومع احتدام المنافسة في المنطقة، قد ترى تركيا وإسرائيل أن توحيد قواهما هو أفضل فرصة لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية.

ويبدو الشرق الأوسط مختلفاً جداً اليوم مما كان عليه الحال في مطلع القرن، وأن أكبر لاعب أجنبي في المنطقة، وهو الولايات المتحدة، يبتعد رويداً عن دوره التاريخي، باعتباره القوة العسكرية الأولى لفض النزاعات في الشرق الأوسط، وبدلاً من ذلك، بدأ شركاء محليون يتحملون عنت القتال في المنطقة، في حين تقدم الولايات المتحدة لهم الدعم من بعيد. وفي الوقت نفسه تحرص واشنطن على عدم ظهور دولة واحدة تهيمن على المنطقة بمفردها. وتحقيقاً لهذه الغاية تحاول الولايات المتحدة تحقيق توازن بين القوى في المنطقة، وذلك بعدم تقديم الدعم لبلد واحد كي لا يؤثر في بلدان أخرى.

اشتداد المنافسة الإقليمية

إلا أن بلدان الشرق الأوسط لديها خططها الخاصة بها، فمع انسحاب الولايات المتحدة من المشهد، برزت ثلاث قوى متنافسة تسعى لملء الفراغ الذي خلفته أميركا، هي: تركيا وإيران والتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.

وتحاول إيران تقوية نفوذها في المنطقة من خلال تعزيز علاقاتها مع الدول ذات الطوائف الشيعية في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك سورية والعراق ولبنان. وتمكنت طهران أيضاً من مد نفوذها لتصل الى الأقليات الشيعية في المنطقة، وإضعاف منافسيها السنة من خلال إثارة القلاقل بين المجتمعات الشيعية في البحرين والسعودية.

وتراقب الدول العربية السنية التحركات الإيرانية بمزيد من القلق، خصوصاً أن علاقتها مع الولايات المتحدة قد تحسنت كثيراً. وفي محاولة لمواجهة المد الشيعي سعت السعودية وحلفاؤها الخليجيون لتوسيع نفوذهم من خلال العديد من المبادرات المشتركة في التعاون الأمني والاقتصادي. وحتى الآن، وافقت الرياض على تقديم أكثر من ثلاثة مليارات دولار لمصر في صورة قروض ومنح، وقدمت 1.2 مليار دولار إلى الأردن من عام 2011 إلى عام 2016. ومنحت المملكة العربية السعودية أيضا خمسة مليارات دولار للجيش السوداني في فبراير 2015. وفي الوقت نفسه وعدت كل من الكويت، وسلطنة عمان والولايات المتحدة ودولة الإمارات العربية مجتمعة، بتقديم 10 مليارات دولار كمساعدات لمصر في مارس الماضي.

وفي بعض النواحي نجد أن مصالح تركيا تصطف مع مصالح السعودية وحلفائها. وخلال الحرب الباردة كانت الولايات المتحدة ترى تركيا حليفاً مهماً يمكنه مواجهة النفوذ السوفييتي في سورية ومصر والعراق. وعلى الرغم من أن واشنطن ستواصل الاعتماد على أنقرة في المنطقة، فإن أهمية علاقتهما بدأت تتضاءل. وبفعل محور الولايات المتحدة – إيران، الذي نشأ أخيراً، تجد تركيا نفسها في حاجة إلى حلفاء آخرين لكبح جماح الظهور القوي لطهران. وفي حين أن التحالف العربي السني هو المنافس لتركيا، لكنه يبدو أيضاً كشريك منطقي في جوانب معينة، وفي حقيقة الأمر تتعاون أنقرة بالفعل مع الرياض في ما يتعلق بالتحالف المناهض للإرهاب في سورية، وتسدد الطائرات السعودية ضربات جوية في سورية انطلاقاً من القواعد التركية. وعلاوة على ذلك، تعمل تركيا على بناء قاعدة جوية في قطر، وتسعى لتعزيز علاقاتها مع دول الخليج الأخرى.

وليس هذا كل ما في الأمر، فلدى تركيا رؤيتها الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، وأنها مستعدة لتعزيز تعاونها مع أي تحالف تقوده السعودية للحد الذي يناسب أهدافها الواسعة، وفي الوقت الذي تبحث فيه أنقرة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، فإنها لا تتجاهل إحياء علاقاتها مع إسرائيل لتصبح خياراً جذاباً على نحو متزايد.

إحياء شراكة قديمة

ظلت العلاقة بين إسرائيل وتركيا علاقة شائكة لسنوات عدة، ففي أعقاب انتخابات تركيا عام 2007 وحرب إسرائيل 2008-2009 في قطاع غزة، بدأت أنقرة تمد يدها بالمزيد من الدعم للجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وبفعلها ذاك أصبحت تركيا في صراع مباشر مع المصالح الإسرائيلية، خصوصاً في ما يتعلق بالدعم التركي للرئيس المصري السابق محمد مرسي، والمنظمات الفلسطينية مثل حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، التي يعتبر القادة الإسرائيليون أنها تشكل تهديدات خطيرة لبلادهم.

وبعد أن تدهورت العلاقة بين اسرائيل وتركيا لمدة ثلاث سنوات، تراجعت تلك العلاقة تماماً في مايو 2010 عندما دهمت القوات الإسرائيلية سفينة مافي مرمرة، التي ترفع العلم التركي، وتحاول كسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة. وتمخض الحادث عن مقتل 10 أتراك، ما أدى إلى خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية وتعليق التعاون العسكري بين البلدين.

ومنذ ذلك الحين، أصدرت إسرائيل اعتذاراً رسمياً ووافقت على تعويض عائلات القتلى، ومع ذلك، لايزال الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة يشكل حاجزاً أمام تطبيع العلاقات بين البلدين. وتصر تركيا على السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة؛ وتصر إسرائيل على أن ذلك من شأنه أن يكون ضاراً لأمنها القومي.

ولكن يبدو أن المواجهة لن تصمد لمدة أطول من ذلك بكثير، فمنذ ديسمبر عام 2015، دخل الجانبان في محادثات لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأحرزا تقدماً بشأن رفع الحصار عن غزة (وافقت حماس أخيراً على السماح للحرس الرئاسي لحركة فتح بإدارة معبر رفح بين مصر وقطاع غزة، وهو شرط مهم لكلٍّ من إسرائيل ومصر، للسماح بتدفق الناس والبضائع إلى قطاع غزة)، وفي أواخر فبراير، أعلن العديد من المسؤولين الأتراك والإسرائيليين أن الصفقة وشيكة.

المصالح المشتركة

ويبدو من المرجح، بالنظر إلى الحقائق المتغيرة في المنطقة، أن تركيا وإسرائيل تسيران نحو المصالحة. وتشارك إسرائيل تركيا في حاجتها الملحة إلى حلفاء آخرين غير الولايات المتحدة، لاسيما بالنظر إلى المدى الذي كانت تعتمد فيه على دعم الولايات المتحدة في الماضي. وفي الوقت الذي تحاول تركيا أيضاً تعزيز علاقاتها مع دول الخليج، فإن إسرائيل ترى أن تقاربها مع تركيا يشكل لها أولوية استراتيجية لسببين: الطاقة والأمن.

وفي محاولتها لبناء شراكاتها الإقليمية، استخدمت إسرائيل احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي لجذب اهتمام جيرانها، بما في ذلك مصر والأردن. وفي نهاية عام 2015 وقعت إسرائيل على عقد لمدة سبع سنوات، لتزويد مصر بخمسة مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي. كما وقعت أيضاً اتفاقيات تصدير عدة مع مصر والأردن، رغم أن أياً منها لم يتم تفعيله حتى الآن.

وعلى الرغم من هذا النجاح، فسيمر وقت طويل قبل أن تسفر مثل هذه الصفقات عن نتائج ملموسة بالنسبة لإسرائيل، خصوصاً أن خطوط الأنابيب اللازمة لنقل صادرات الطاقة إلى مصر والأردن لم يتم بناؤها بعد. وفي حين ستبقى كل من مصر والأردن في طليعة استراتيجية الطاقة الإسرائيلية، فإنها ستستمر أيضاً في البحث عن أسواق أخرى للغاز الطبيعي.

وقد تكون تركيا واحدة من هذه الاسواق، إذ إن خلافاتها السياسية الأخيرة مع روسيا مصدرها الرئيس للغاز الطبيعي، قد جعل أنقرة تجد في البحث عن موردين آخرين أكثر موثوقية. ومثلها مثل إسرائيل، ستسعى تركيا للحصول على عدد من الشراكات في مجال الطاقة، بما في ذلك كردستان العراق وأذربيجان، لتنويع محفظتها من هذا المورد.

بالإضافة إلى الطاقة، فإن للدولتين مصلحة في توسيع تعاونهما الأمني، خصوصاً في سورية، إذ سيستفيد الاثنان من التدريب المشترك ونقل التكنولوجيا وتبادل المعلومات الاستخباراتية كلما اتسع نطاق الحرب الأهلية هناك. ونعلم أن التعاون بين القوات الإسرائيلية والتركية ليس أمراً جديداً، فقد كان لهما اتفاقات أمنية قوية إلى حد ما في تسعينات القرن الماضي، وأوائل هذا القرن ساعد سلاح الجو الإسرائيلي تركيا على تحديث معداتها والاستخبارات المشتركة.

إلا ان هذا لا يعني أن العقبات التي قد تعترض إحياء العلاقات بين تركيا وإسرائيل لم تعد موجودة، فسياسة الطاقة الإسرائيلية معقدة وغير واضحة، الأمر الذي سيخلق الكثير من عدم اليقين بالنسبة لتركيا، في سعيها لوضع اللمسات الأخيرة على صفقة الغاز الطبيعي. وعلاوة على ذلك، فمن المرجح أن تنشأ مشكلات في نقل الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى السوق التركية. وفي الوقت نفسه، فإن تركيا بحاجة لتصوير نفسها على أنها المدافع عن القضية الفلسطينية، ما قد يعقد جهود إسرائيل في حماية أمنها الوطني خلال تفاوضها مع تركيا، لوضع حد لحصار غزة. وعلى نطاق أوسع، فإن المحرمات الإقليمية بشأن العمل مع إسرائيل قد تحد من قدرة تركيا على التعاون مع إسرائيل لتصبح قوة بارزة في الشرق الأوسط.

الأكثر مشاركة