هجمات بروكسل تكشف أزمة في المــــجتمع البلجيكي

شهدت العاصمة البلجيكية، قبل أيام، هجمات إرهابية عنيفة استهدفت أماكن حيوية في المدينة. لقد كانت بروكسل وضواحيها إلى وقت قريب حاضنة لخلايا المتطرفين، ولم تكن هدفاً لهؤلاء. والهجوم ضد متحف يهودي في مايو 2014، لم يكن ضد البلجيكيين بقدر ما كان ضد اليهود، وكان منفذ العملية متشدداً فرنسي المولد.

هجمات الثلاثاء مختلفة تماماً، لقد اختار المهاجمون أهدافهم بدقة، فقد كانت المواقع المستهدفة محلية ودولية في آن معاً، لقد ضرب المسلحون مبنى المغادرة الذي يستخدمه الأميركيون في مطار «زافنتام»، ومحطة المترو التي لا تبعد سوى 200 متر عن المقر الرئيس للمفوضية الأوروبية. أصبحت بروكسل، لأسباب معقدة، واحدة من البؤر، إن لم يكن مركز الزلزال، لما يسمى «الأعمال الجهادية» في أوروبا، وكانت هجمات نهاية العام الماضي في باريس ـ كما نعلم ـ قد خططت ونفذت من بروكسل. ولد قائد تلك العملية عبدالحميد أباعود في بلجيكا، أما المتهم الهارب الذي ألقي القبض عليه الأسبوع الماضي صلاح عبدالسلام، وهو مواطن فرنسي من أصل مغربي، فقد عاش حياته كلها في ضاحية «مولينبيك» غرب العاصمة البلجيكية.

مسؤولية مشتركة

تحدث محللون عن تداعيات الهجمات التي طالت العاصمة الأوروبية، ورأى بعضهم أن «الإرهاب الحديث وليد العولمة»، فالمتطرفون يستخدمون الوسائل التكنولوجية الحديثة لإحكام سيطرتهم على أتباعهم. وندد كثيرون بالتقصير الأمني والثغرات التي سمحت للمهاجمين بترويع سكان المدينة. يذكر أن خبراء أمنيين قالوا إن بلجيكا فشلت في السيطرة على شبكات التطرف ومراقبتها، خصوصاً في ضاحية «مولينبيك» الشعبية، لكن المسؤولية لا يتحملها البلجيكيون وحدهم، وفقاً لهؤلاء، بل جيرانهم الأوروبيون أيضاً.

والسماح بوجود «بؤر إرهابية» على أراضٍ أوروبية يعد خطأ فادحاً وتهديداً ليس لبلجيكا فحسب، بل لأوروبا كلها. إلى ذلك باتت المجتمعات الموازية التي نشأت داخل أوروبا تحدياً اجتماعياً وأمنياً كبيراً. ودعا الخبراء إلى تكاتف الجهود من قبل القضاة ورجال الشرطة والمعلمين والأخصائيين الاجتماعيين وأئمة المساجد، لتحقيق الأهداف المنشودة في الحرب ضد الإرهاب، الذي يحتاج إلى دولة قوية ومجتمع مدني أكثر وعياً.

في المقابل، قال محللون فرنسيون، إن أوروبا لم تفعل مثل أميركا بعد الهجمات الإرهابية، بتقليص هامش الحريات مقابل الأمن. وفي الوقت الذي دعوا فيه إلى ضرورة مواصلة النقاش حول المسائل الأمنية، طالبوا بمناقشة مسألة الإقصاء المجتمعي وغياب البدائل، الأمر الذي يوفر أرضاً خصبة للإرهاب.

نسبياً، انضم المزيد من الشباب المسلمين في بلجيكا، بمن فيهم العديد من المعتنقين الجدد، إلى التنظيم الإرهابي «داعش» وجماعات مسلحة أخرى في الشرق الأوسط، أكثر من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي. ويشير توقيت هجمات الثلاثاء إلى أن الدافع ربما كان انتقاماً لاعتقال عبدالسلام، لكن الحقيقة قد تكون أكثر تعقيداً.

مع ذلك، كل هذه الحقائق تشير إلى مشكلة عميقة ومتجذرة في بلجيكا، وراء ظاهرة التطرف «المزعجة» للشباب المسلم في فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو ألمانيا، لماذا بلجيكا ولماذا بروكسل أو مولينبيك؟

أزمة الهوية

هناك عوامل معتادة مثل البطالة والتمييز وانقسام الهويات، التي تفسر انعزال الشباب المسلمين في البلدان الأوروبية الأخرى، ففي بلجيكا احتدم النقاش حول الهوية، حتى بين السكان الأصليين أنفسهم، وأصبح الخلاف بين الناطقين بالهولندية والناطقين بالفرنسية واضحاً في السنوات الأخيرة، وكاد يؤدي إلى أزمة سياسية حقيقية. معظم الشباب المسلم في بريطانيا أو فرنسا لا يعتبرون أنفسهم بريطانيين أو فرنسيين. كيف ينظر شاب من أصول أجنبية ولد في بروكسل إلى نفسه؟ هل هو من الـ«فليمنغ» أم «والوني» أم من أهل بروكسل؟

في الوقت نفسه فإن تقسيم البلاد في كل شيء، ماعدا الاسم، أسهم في تقويض دور المؤسسات الوطنية أو الاتحادية، بما في ذلك الشرطة ونظام العدالة وأجهزة الاستخبارات. ينظر الساسة البلجيكيون إلى المسائل وفقاً لمصالح «المناطق» أو المجموعات اللغوية، بدلاً من النظر إلى المستوى الوطني. تعاني فروع مختلفة من أجهزة الشرطة والأمن ضعفاً في التواصل مع بعضها بعضاً. وفي ذلك، وصف عمدة «فيلفورد»، وهي بلدة في الضواحي خارج بروكسل، هانس بونتي، الترتيبات الأمنية البلجيكية بأنها «خير مثال على الفوضى المنظمة».

باتت بلجيكا، التي طالما تغنت بكونها بلداً «عالمياً» ومركزاً للقارة الأوروبية، مسرحاً للخلافات السياسية والجهوية واللغوية. أضف إلى ذلك حقيقة أن بلجيكا تحولت منذ فترة طويلة إلى محطة لإبرام صفقات الأسلحة غير المشروعة، كما أن موقعها الجغرافي يجعلها مثالية لتكون منصة لشن هجمات على الدول الأوروبية المجاورة. حتى وقت قريب، تم تصدير معظم كراهية القيم الغربية والديمقراطية، التي ولدت في «عاصمة» المؤسسات الأوروبية. واليوم، بلجيكا المنقسمة لم تعد محصنة.

ويرى الخبير في مؤسسة «ديفانس ريسيرتش»، توماس هيغهامر، أن اعتداءات بروكسل تثبت أن المتطرفين على جاهزية كاملة، فلا أحد يستطيع التخطيط لعملية من هذا النوع خلال 48 ساعة. ويرى الخبير أن هذه الهجمات المرتبطة باعتداءات باريس، هي المرة الأولى التي تتمكن الشبكة نفسها من الضرب مرتين بهذا الحجم. يذكر أن نتائج التحقيقات في هجمات باريس، العام الماضي، دفعت وزير داخلية بلجيكا، جان جامبو، إلى الدعوة لـ«تنظيف (ضاحية) مولينبيك».

أسباب تكتيكية

ويعتقد مراقبون أن استهداف المسلحين للعاصمة البلجيكية كان لأسباب تكتيكية، وأن تواجد عدد كبير من المتشددين هناك شكل مناخاً مناسباً للتخطيط من أجل ضرب مؤسسات الدولة. ويريد المهاجمون، وفقاً لمحللين، أن يبينوا أنهم من خلال القيام بهجمات في قلب أوروبا، فهم يثأرون لكل الشعوب التي تشهد بلدانها حروباً، ابتداء من أفغانستان إلى منطقة الساحل، مروراً بالشرق الأوسط.

والأكثر أهمية هو أنهم يريدون أن يظهروا أنه بالإمكان نقل الحرب إلى أوروبا. الهجمات الأخيرة في بروكسل توحي بأنها منظمة، والعناصر الذين أعدوا تلك الاعتداءات ينتمون إلى شبكة تتألف من خلايا منفصلة، قادرة على الضرب في أوقات مختلفة، والحفاظ على قدرة الإزعاج، حتى لو تم تحييد هذه الخلية أو تلك. وهذا ما ينطبق على حالة صلاح عبدالسلام، فتنظيم «داعش» بات قادراً على التخطيط، وشن هجمات على الأراضي الأوروبية.

وبالنسبة للتنظيمات المتطرفة، فهي حرب شاملة ومحاولة تسديد ضربات موجعة للقوى الغربية التي تحاربهم. هناك إرادة واضحة لترويع سكان البلدان الغربية للتأثير في الرأي العام، الذي سيضغط بدوره على السياسات. كما يحاول المسلحون نقل الحرب خارج الأراضي المعتادة مثل سورية والعراق وليبيا وغيرها من المناطق، التي تشهد صراعات في الوقت الراهن. أما بالنسبة لردة الفعل التي يجب على المجتمع الأوروبي أن يعتمدها، وفق هيغهامر، للتعامل مع الأحداث، فلا يجب أن تقتصر على القصف في سورية أو في العراق، لأن ذلك «لن يكون الحل للقضاء على الإرهاب في أوروبا».

أصبحت بلجيكا المصدر الأول للمقاتلين في سورية، في الآونة الأخيرة، ما جعلها مركزاً للتطرف، بحسب خبير الإرهاب الفرنسي جيل كيبيل، كما حولها إلى بقعة ساخنة للنزعة الراديكالية، بسبب ازدياد نفوذ الحركات السلفية، والإقصاء الاجتماعي لفئات واسعة من الشباب، ما أنتج مجتمعاً مغلقاً في بروكسل.

أما النسبة المتزايدة للمقاتلين القادمين من بلجيكا، فما هي إلا إثبات لنزعات التطرف التي حذر منها خبراء الإرهاب أخيراً، الذين دعوا إلى الحذر من نزعات التطرف، فالشباب الذي انساق وراء نظريات المؤامرة قد ينجرف إلى العمل المسلح لتحقيق أهداف أيديولوجية. والأمر لا يقتصر على مئات الأشخاص الذين سافروا إلى سورية، لكن الأهم هم آلاف الشباب الآخرين في بلجيكا، الذين يفقدهم مجتمعهم نتيجة إقصائهم من المجتمع، سواء في المؤسسات التعليمية أو سوق العمل.

الأكثر مشاركة