القوات الحكومية العراقية تتخذ مواقعها في جنوب الفلوجة. أ.ف.ب

حرب الفلوجة مستعرة بلا نهايــة في العراق

غادر خليل محمود الفلوجة في سيارة إسعاف، بعد أن دفن بناته بحديقة مستشفى منعزل في المدينة. وقال محمود بصوت متهدّج، وهو يقف وإلى جانبه ابنه البالغ عمره 10 سنوات: «حاولت الخروج من المدينة، لكن عندما وصلنا إلى السوق سقط صاروخ علينا، وقُتلت زوجتي وبناتي الثلاث».

وكان محمود قد حمل جثث بناته وزوجته إلى مستشفى الفلوجة، بعد الهجوم الذي وقع، الأسبوع الماضي، لكن الذين وظفهم «داعش» في المستشفى كانوا قد فروا وتركوا المستشفى مهجوراً، ولذلك قام بدفن بناته وزوجته في حديقة المستشفى، ومن ثم أخذ ابنه المصاب إلى المنزل. وكان محمود يبكي وهو يحكي قصته ويغطي وجهه بكمّه، وكانت الحروق واضحة على وجه ابنه القابع على نقالة مجاورة، في حين تجمعت نساء العائلة حولهما. وقال محمود: «بعد ذلك لم نتمكن من الخروج لرعاية الطفل المصاب».

وكان رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، المتعطش لأي نصر ممكن، قد أعلن، الأسبوع الماضي، أن الفلوجة تحررت بالكامل. وقال القادة العراقيون إنهم ينظفون الجيوب المتبقية لمقاتلي «داعش»، لكن المسؤولين في الجيش الأميركي يقولون إنه من المبكر القول إن معركة تحرير الفلوجة انتهت، وإن هناك الكثير من المساحات التي لايزال مسلحو «داعش» يسيطرون عليها.

استراتيجية كسب القلوب

إذا تمكّن المقاتلون السنة والشرطة من ترسيخ أنفسهم كقوة يمكن الوثوق بها من قبل سكان الفلوجة والحكومة العراقية سيساعد ذلك كثيراً في نجاح الحكومة العراقية في الحفاظ على المدينة. ولكن استعادة الفلوجة من سيطرة «داعش» هي مجرد البداية لمرحلة جديدة من الاهتمام بالمدينة حسب الوعود التي أطلقتها الحكومة العراقية، والتي فشلت حتى الآن في تحقيقها. وقال اللواء في القوات الخاصة، راجي الحسيني: «لدينا استراتيجية لكسب قلوب وعقول الناس، وبناءً عليه يجب على الحكومة أن تقدم الخدمات والأمن للعائلات التي تعيش هنا»، وأضاف الحسيني أنهم ممتنّون للأميركيين والأستراليين الذين قال إنهم علموهم كيفية مداهمة المباني، وقال: «لم نكن قادرين على الدخول إلى الفلوجة من دونهم».

ومن الواضح داخل الفلوجة مشاهدة الاشتباكات المستمرة، في حين يتصاعد الدخان الأسود من شمال المدينة نتيجة القصف الجوي، في حين أن صدى الانفجارات يتردد في أنحاء المدينة. وبالنسبة للمدنيين، أمثال محمود، الذين حثتهم القوات العراقية على المغادرة، فليس لديهم خيار جيد. وعلى الرغم من أن عشرات الآلاف من المدنيين فروا من المدينة بسلام إلا أنهم يواجهون صراعاً من نوع آخر للبقاء على قيد الحياة في المعسكرات المؤقتة الموجودة في الصحارى التي تفتقر إلى المياه والمرافق والرعاية الصحية. وفي منطقة قرب الفلوجة كان قائد القوات الخاصة العراقية، عبدالوهاب الساعدي، يجلس أمام طاولة بلاستيكية قرب مبنى مدمر، حيث يدير المعركة باستخدام «آي باد» وجهاز لاسلكي. والساعدي جنرال مدرب جيداً، ويمتلك خبرة نحو 25 عاماً في القوات الخاصة. وكان يعمل خلال معركة الفلوجة التي قادها الأميركيون عام 2004، ضابط عمليات في وزارة الدفاع العراقية. ويقول الساعدي إنهم تعلموا كثيراً من التعاون مع القوات الأميركية حول القتال في المدن.

وبعد أن شنت الحكومة العراقية معركة الفلوجة، في شهر مايو الماضي، استغرق ذلك خمسة أسابيع لتتمكن من القتال في وسط المدينة، واستغرقت استعادة مدينة الرمادي نحو 18 شهراً وأدت إلى تدمير المدينة. ويبدو الساعدي فخوراً بقواته التي تمكنت من إنجاز المهام في الفلوجة وتكريت، حيث يقول إن القوات الخاصة قاتلت بشدة أكثر العام الماضي، من دون تدمير المدن، وقال: «لدي أربع أولويات، الأولى المحافظة على المدنيين بأمان، والثانية الحفاظ على حياة رجالي، والثالثة تدمير (داعش)، والرابعة الحفاظ على البنية التحتية للمدينة».

وهذا لا يعني أن المدينة وسكانها لم يتعرضوا للضرر، إذ إن العشرات من المدنيين لقوا مصرعهم خلال هروبهم من مسلحي «داعش»، حيث غرقوا في نهر الفرات، أو وقعوا في الحواجز التي وضعها «داعش». وليس هناك ماء، ولا كهرباء تديرها الحكومة منذ أن احتل «داعش» المدينة. وبينما بدأ الجيش العراقي بحصار المدينة كان مقاتلو «داعش» يكدّسون الأطعمة لمقاتليهم، مخلّفين الآلاف من المدنيين يعيشون على ما يمكن أن يسد الرمق مثل البلح.

وقبل بضعة أشهر من استيلاء تنظيم «داعش» على مدينة الموصل في شمال العراق قبل عامين، وطّد التنظيم جذوره في الفلوجة، وهي مدينة يحكمها النظام القبلي، والتي اشتعلت ضد الاحتلال الأميركي، في حين أن سكانها شعروا بغضب شديد، نظراً لتجاهل الحكومة العراقية لها. وفي بداية الهجوم الحالي ضد الفلوجة بدأ ما بقي من سكانها بالفرار منها، وأنشأ مقاتلو الميليشيات الشيعية نقاط تفتيش خاصة بهم خارج المدينة. وكان الرجال الذين يتم اعتقالهم يتعرضون للتعذيب والضرب، حسب مجموعات حقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن آلافاً عدة من مقاتلي القبائل السنية تم تجنيدهم للهجوم على الفلوجة، إلا أن الحكومة العراقية تعمدت التأخير في إمدادهم بالأسلحة، ونتيجة لذلك أصبحوا غير مشاركين في الهجوم الرئيس، وإنما مهمتهم الآن المساعدة على تأمين المدينة حالما يتم تنظيف الأحياء من «داعش».

وكان العديد من القوات الخاصة من الطائفة الشيعية متشددين في انتمائهم، ولكن تبدو ظاهرة التطرف الطائفي هذه الأيام أقل مما كانت عليه سابقاً في الجيش العراقي والشرطة الاتحادية. وكان العريف وسام كريم، وهو سائق لضابط كبير من الموصل، قد ربط شريطاً أخضر حصل عليه من ضريح شيعي على مرآة سيارته العاكسة، وتم تدمير هذه المرآة الأسبوع الماضي، عندما سقطت قذيفة هاون بالقرب من السيارة، وتحطمت نافذتان للسيارة.

وكان الرجل السني، الذي اكتفى بإطلاق اسم حميد على نفسه، يكنّ احتقاراً كبيراً للسياسيين السنة الذين يهرّبون الأموال إلى الخارج، كما أنه لم تتم مشاهدتهم في الأنبار منذ عامين. وقال: «إنهم يُقيمون في عمان، ويرتدون البدلات الفخمة، ويعيشون في الفنادق الفاخرة. لقد كانت الأنبار المنطقة الأكثر ثراءً في العراق، لكنها أصبحت الآن لا شيء بسبب سكانها، ومن الآن فصاعداً لن نحترم السياسيين أو قادة العشائر»، والعديد هنا يشاطرون حميد غضبه، إذ إن المعركة بالنسبة للكثيرين منهم باتت شخصية، ففي عام 2005، وبينما كان حميد يعمل في الشرطة، قال إن «القاعدة» هاجمت بيته وجرحت زوجته وابنه، وتمكنوا من تفجير بيته وبيت شقيقه، وفي ما بعد عرف هوية الذين قاموا بهذا الهجوم. وقال حميد: «قتلت بعضاً منهم، وذلك خلال معركة وقعت عام 2007». ويقول حميد، وهو يشير إلى عشرات من أفراد الشرطة في الفلوجة كانوا خلفه «هل ترون هؤلاء الأشخاص؟ جميعهم فقدوا أشخاصاً من المقربين إليهم، فإذا لم يكن الوالد فهو الأخ، وإذا لم يكن أحد الأقرباء فإن منازلهم تم تفجيرها، لقد عانينا كثيراً من تنظيم (داعش)».

الأكثر مشاركة