العنصرية والاستقطاب العرقــي يهدّدان المجتمع الأميركي
كان اسم «دالاس» مرادفاً للعنف السياسي قبل مجزرة الخميس، فالمدينة كانت مسرحاً للجريمة التي قتل فيها الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي، في عام 1963، لتحطّم براءة أميركا ما بعد الحرب. والآن، يُقتل خمسة من رجال الشرطة أثناء خدمتهم لمجتمعهم، في حين يصارع آخرون الموت. كان سفك الدماء في ما كان يفترض أن يكون مسيرة سلمية، مساء الخميس، جريمة كراهية واضحة المعالم. ولكن كيف نُعرّف هذه الكراهية؟ هل كان هذا عملاً إرهابياً، أو هجوماً أفرزته التوترات العرقية، أو كلاهما؟
مهما كانت الدوافع وراء هذا الجنون، فإن مسألة العرق باتت من جديد على رأس جدول الأعمال في الولايات المتحدة. يتعين على أول رئيس أسود للبلاد إخماد نيران الكراهية في بلده. على كل، ليس هذا هو التقدم الذي وعد به. بالنسبة للأميركيين السود، لقد فقدت أميركا براءتها منذ فترة طويلة. كان العنف هو القاعدة لقرون عدة. ووجدت دراسة أجريت العام الماضي، أن عدد ضحايا القتل من السود العزّل، على أيدي عناصر الشرطة، هو ضعف أمثالهم من البيض. وكان الاحتجاج في «رعب يوم الخميس» رداً على «الموت البوليسي» الذي أودى برجلين أسودين «إضافيين»، الأسبوع الماضي.
تفتخر أميركا بأنها تعيش تجربة ديمقراطية مستمرة، تضمن حقوق الجميع. ومع ذلك، لاتزال العنصرية حقيقة يعيشها الناس بشكل يومي. وبعد 150 عاماً من إلغاء العبودية ونصف قرن منذ إلغاء التمييز، لايزال مواطنون سود يعيشون في خوف من شرطتهم، في حين يعاني الكثير منهم تبعات الفقر والجريمة. بالتأكيد هناك الكثير منهم ضمن الطبقة المتوسطة، لكن المشكلة أن الديمقراطية الأميركية مالت نحو التطرف.
بدأت العنصرية بشكل مؤسسي في أميركا، من خلال تسليح قوات الشرطة والأفراد (البيض) خوفاً من الإجرام الأسود المفترض. وكانت العنصرية في الولايات المتحدة، في كثير من الأحيان، سياسة رسمية، على مدى عقود، تركت بصمتها في أذهان كثير من الأميركيين البيض. هنا فارق كبير بين الكلاب وخراطيم المياه التي استُخدمت ضد متظاهري الحقوق المدنية في الستينات، وقوانين اليوم التي تجيز للمواطنين إطلاق النار، إذا شعروا بأنهم مهدّدون.
• بعد 150 عاماً من إلغاء العبودية ونصف قرن على إلغاء التمييز، لايزال مواطنون سود يعيشون في خوف من شرطتهم، في حين يعاني الكثير منهم تبعات الفقر والجريمة. توسيع النقاش منذ أن ارتفع صوتها في أعقاب احتجاجات فيرجسون، قبل عامين، وجهت الاتهامات لحركة «حياة السود مهمة» بشكل روتيني، بأنها تتبنى وجهات نظر معادية للشرطة، وتدعو إلى العنف ضد عناصرها. ونشأت الحركة الاحتجاجية منظمة، بعد تبرئة جورج زيمرمان من تهمة قتل شاب أميركي أسود، في قضية أثارت جدلاً طويلاً. وتسعى الحركة لتوسيع النقاش بشأن عنف أجهزة الأمن، ليشمل حماية المواطنين السود وتمكينهم من حماية أنفسهم، والأهم من ذلك، قول مسؤولي «حياة السود مهمة» إنهم يريدون استرجاع كرامة السود وحقوقهم الإنسانية الأساسية. ويقول المحتجون السلميون إنهم استفادوا من حركة الحقوق المدنية في الخمسينات والستينات التي قادها الحقوقي البارز مارتن لوثر كينغ. كما تريد الحركة الجديدة الانضمام إلى حركات الاحتجاج السلمية الأخرى في الولايات المتحدة والعالم، مثل حركة «احتلوا وول ستريت»، وحركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وغيرهما. ومع تجدد أحداث العنف في الأيام الأخيرة يخشى مراقبون أن يصبح الكفاح السلمي من أجل الحقوق المدنية أمراً صعباً. |
استقطاب عرقي
تساءل البعض عما إذا كان من الأفضل أن يحمل المحتجون الذين يجوبون المدن الأميركية، حالياً، شعارات «حياة الناس مهمة» بدلاً من «حياة السود مهمة». إن تطبيق القانون بشكل غير عادل والتجارب اليومية، أدّيا بهؤلاء إلى هذا الاستقطاب العرقي، كما أن للمشكلة بعدها الثقافي أيضاً، فعضوية العصابات، وفقدان الدعم الأسري، لهما دور كبير. ولكن، يقول نشطاء الحقوق المدنية، هذه التحديات هي نتاج هذا الافتراض الثقافي العالق بالأذهان، بأن السود لا يمكنهم ممارسة الحرية بشكل صحيح. لم يتم تقبّلهم كمواطنين كاملين، وكثير من الشباب الأميركيين - من أصل إفريقي - وجد وسائل أخرى لإثبات وجوده: المخدرات والجريمة.
تشير الإحصاءات إلى أن نسبة البطالة بين أوساط السود هي أكثر من ضعفي نسبتها في أوساط البيض؛ كما أن نسبة توظيف المتعلمين من السود مقارنة بالبيض ضئيلة جداً. ويقضي السود فترات حبس أطول من البيض للجريمة المرتكبة نفسها. وتشير الإحصاءات الأخيرة الى أن اكثر من 65% من عائلات السود تعيش تحت خط الفقر، الأمر الذي يدفع بالشباب إلى تجارة السلاح والمخدرات وطرق الكسب غير المشروعة، علاوة على أن معظم حالات الانتحار في الولايات المتحدة هي في أوساط السود. أما مستوى التعليم فهو متدنٍّ للغاية، ولم تتغير هذه الأرقام خلال رئاسة أوباما.
مثالية سطحية
البحث عن الكرامة أمر صعب للغاية عندما يؤكد المجتمع باستمرار أنك تفتقدها. الديمقراطية الأميركية تبدو جميلة لكنها سطحية، اضافة الى أن ممارستها على المستوى المحلي في السنوات الـ250 الماضية كثيراً ما أظهرت انتصاراً واضحاً للأحكام المسبقة، والأكاذيب القديمة عن اللون، وأصبح البيض والسود ضحايا تراث أميركا من الظلم العنصري.
يبدو أن دوافع جريمة دالاس تتجاوز مسألة الكراهية العرقية، فمرتكب الجريمة كان ضمن احتياطي الجيش الأميركي، ومن الصعب تحديد الدوافع الحقيقية في مجتمع متوتر ينتشر فيه السلاح والكراهية العرقية. الولايات المتحدة مازالت «دولة عنصرية»، ولم تتمكن من تحقيق أي تقدم، ولم يتغير فيها شيء رغم مضي سبع سنوات على حكم الرئيس باراك أوباما. وموجة الغضب التي عمت دالاس، لها ما يبررها، لأن المشكلة الأساسية جاءت على خلفية العنصرية المستفحلة. ويؤكد هذا الحادث مرة أخرى أن هناك حاجة إلى إصلاح جذري في السياسة الاجتماعية والتعليمية في الولايات المتحدة، رغم أن ذلك يبدو صعباً، خصوصاً بالنسبة لتقييد حمل الأسلحة. والمرشحان المتنافسان على خلافة أوباما، دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، لا يعطيان الانطباع بأن شيئاً سيتغير في المستقبل.
يرى مراقبون أن هناك أسباباً، في الوقت الراهن، تجعل المجتمع الأميركي يخشى العنف العنصري، خصوصاً بعد مقتل خمسة ضباط من الشرطة، في دالاس، رداً على مقتل رجلين أسودين. ويشيرون إلى أن ضباط الشرطة، خصوصاً البيض، لديهم القدرة على تسميم العلاقات بين المجموعات العرقية أكثر في البلاد. وتنتشر مشاعر كراهية إزاء قوات الأمن بين الكثير من الأميركيين من أصول إفريقية، ما قد يصعد موجة العنف والرعب التي شهدتها دالاس، خصوصاً أن هناك الكثير من حالات الاعتداء المميتة وغير المبررة ضد المواطنين السود. ويُتوقع اندلاع أعمال عنف جديدة بدافع الكراهية والانتقام، وذلك لأن في الولايات المتحدة، فئة (بيضاء) لها الحق القانوني في الرد على أي تهديد محتمل باستخدام السلاح. في المقابل، يُنظر إلى الأميركي الأسود، على أنه دائماً شخص عنيف يجب مراقبته والتعامل معه بحزم.
العنصرية وحمل السلاح معضلتان تم تجاهلهما طويلاً، ليصل الأمر إلى الأحداث الدامية التي شهدتها أميركا الأسبوع الماضي، وهي بكل تأكيد أكثر الحوادث عنصرية منذ عقود. تراجع الاهتمام بمسألة العنصرية والتمييز، بعد حركة الحريات المدنية في الخمسينات والستينات، كما أن التغيرات التي جرت على المستوى التشريعي وأحكام القضاء لم تتبعها تغيرات على أرض الواقع، خصوصاً في التعليم والتوظيف، وظلت الظروف العامة نفسها بالنسبة لشريحة واسعة من الأميركيين من أصل إفريقي ولاتيني.