حزب النهضة التونسي يتخلى عن مفهوم «الإسلام السياسي»

في مايو الماضي، أدلى زعيم أكبر حزب في البرلمان التونسي، راشد الغنوشي، بتصريح مفاجئ، أوضح فيه أنه لم يعد هناك أي مبرر للإسلام السياسي في تونس، موضحاً الأسباب التي دعت حزب النهضة إلى النأي بنفسه عن جذوره الإسلامية، وفرض نفسه وسيلةً سياسيةً لتحقيق «ديمقراطية الإسلام». وأمسك الخبراء فوراً بتلابيب هذا الإعلان، وظلوا ينقبون في المبررات التي دعت واحدة من الحركات الإسلامية القليلة الناجحة في العالم العربي، إلى التخلي عن الفلسفة التي كانت بمثابة السمة المميزة لها في السنوات التي تلت ثورة 2011.

ويبدو أن الكثير من هؤلاء المحللين قد فشل في إدراك المغزى والمبررات من وراء ذلك الإعلان، ومن خلال تمحيص دقيق يبدو أن قرار النهضة التخلي عن مفهوم «الإسلام السياسي» لا يمس الشخصية الإسلامية لهذه الحركة، بقدر ما يمس السياسة.

وإذا حكمنا على الحركة من خلال برنامجها، وتصرفاتها، والأشخاص الذين ينتمون إليها، يظل هذا الحزب حزباً إسلامياً محافظاً لم يتغير حقاً، ما يدل على أن هذا الاتجاه الجديد الذي يبدو في الظاهر مدبراً بعناية، وهو وسيلة تم إعدادها بمهارة لمساعدة قادتها على التكيف مع المشهد المتغير في السياسة الانتخابية التونسية.

نهج تصالحي

على الرغم من أن زعماء النهضة وضعوا في اعتبارهم حقيقة أن جزءاً كبيراً من المجتمع التونسي ظل مخلصاً للقيم العلمانية التي غرسها كبار السياسيين في النظام القديم، وصاروا ينظرون إلى الحزب الحاكم الجديد وأهدافه بالشك والريبة. لذلك كان على الغنوشي وزملائه تسويق عقيدتهم واحداً من الكيانات السياسية المعتدلة. حتى بعد نجاحه في الانتخابات شكل «النهضة» ائتلافاً حاكماً مع الأحزاب التي فشلت خلال خوض السباق، وهذا النهج التصالحي ظل واحداً من الوسائل السياسية التي انتهجها في السنوات التالية، حتى مع ألد خصومه السياسيين.

ولكي نفهم هذا التطور الظاهري فهماً جيداً، يحتاج الأمر لنظرة متعمقة في تاريخ تونس ما بعد الثورة. فقد فتح سقوط الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، في يناير عام 2011 الباب واسعاً للانتقال إلى نظام ديمقراطي، ما فتح على الفور آفاقاً واضحة وغير مسبوقة للناشطين الإسلاميين. بن علي - تماما مثل سلفه الحبيب بورقيبة أول رئيس للبلاد ـ انتهج بن علي العلمانية المتشددة التي أغلقت الباب تماماً على الإسلام السياسي. وصار كل شخص يروج لمفهوم الحكم الإسلامي يتعرض للقتل، أو الطرد من البلاد، حتى اللحية الكثيفة يمكن أن تزج بصاحبها في مخافر الشرطة.

ومن بين أولئك الأشخاص الذين تحملوا العبء الأكبر من الاضطهاد الرسمي، كان الغنوشي نفسه الذي انتهى به المطاف ليقضي 22 عاماً في المنفى في أوروبا. وعاد إلى الوطن في غضون أسابيع بعد سقوط بن علي، وعلى الفور أعاد بناء الحزب ليصبح قوة انتخابية هائلة. وفي الفترة التي سبقت الانتخابات الوطنية الأولى في أكتوبر 2011، أطلقت النهضة حملة منظمة تنظيماً جيداً، ساعدت في تأمين عدد وافر من المقاعد في الجمعية الوطنية التأسيسية، وهي برلمان انتقالي مهمته صياغة دستور تونس الجديد.

ومن البداية، وعلى الرغم من أن زعماء النهضة وضعوا في اعتبارهم حقيقة أن جزءاً كبيراً من المجتمع التونسي ظل مخلصاً للقيم العلمانية، التي غرسها كبار السياسيين في النظام القديم، وصاروا ينظرون إلى الحزب الحاكم الجديد وأهدافه بالشك والريبة. لذلك كان على الغنوشي وزملائه تسويق عقيدتهم واحداً من الكيانات السياسية المعتدلة. حتى بعد نجاحه في الانتخابات شكل «النهضة» ائتلافاً حاكماً مع الأحزاب التي فشلت خلال خوض السباق، وهذا النهج التصالحي ظل واحداً من الوسائل السياسية التي انتهجها في السنوات التالية، حتى مع ألد خصومه السياسيين.

وعلى الرغم من أن «النهضة» ارتكب أيضاً أخطاء عندما اقترح أحد نوابه اعتماد الشريعة مصدراً رئيساً للقانون التونسي، أجبر الغضب الشعبي الناتج عن ذلك الغنوشي على سحب الاقتراح علناً. واتهم النقاد الحزب بالتساهل مع المتشددين الدينيين، ما جعله، حسب قولهم، مسؤولاً عن تصاعد العنف السياسي.

كل هذا، إلى جانب التباطؤ الاقتصادي، شجّع العديد من التونسيين، خصوصاً من بين النخبة العلمانية في البلاد، على رفض الحزب. ولهذا السبب انهزمت النهضة في الانتخابات البرلمانية عام 2014، أمام «نداء تونس»، وهو حزب علماني ظهر إلى الوجود عام 2012 بقيادة الباجي قائد السبسي، الذي كان قد خدم في إدارتي بن علي وبورقيبة. والسبسي هو الآن الرئيس التونسي، ما يؤكد مدى استمرار المعارضين للإسلام السياسي في الهيمنة على المشهد السياسي.

وعلى العموم، فإن عام 2014 لم يكن لحظة جيدة للإسلاميين. فقد أطيح في يوليو 2013 بالإخوان المسلمين في مصر، بدعم قوي من المصريين العلمانيين، ما دفع نشطاء حزب النهضة ليتساءلوا عما إذا كان سيأتي دورهم تالياً. كما أن صعود تنظيم «داعش» المتطرف، الذي لايزال يفخر بأن لديه عدداً مذهلاً من التونسيين في صفوفه، فاقم الوضع بالنسبة للنهضة، حيث صار البعض ينظر إليه على أنه متساهل جداً في الأمن، ما قوض أكثر السمعة الجماهيرية للإسلام السياسي. هذه التطورات جعلت قادة الحزب يدركون أن النهضة، مهما كان «معتدلاً» في طرحه السياسي، فإن مجموعات كبيرة من الناخبين التونسيين سترفض مشاركته في الحياة السياسة.

كل هذا ربما يجيب عن السؤال بشأن نأي حزب النهضة عن «الإسلام السياسي»، لكن أن يجعل النهضة هذا التحرك يبدو بمثابة رفض للإسلام السياسي فهذا في حد ذاته نوع من التضليل. فهناك شريحة كبيرة نسبياً من سكان تونس، خصوصاً خارج العاصمة، لاتزال تتوق لرؤية حكومة تستهدي بالقيم الإسلامية. وينظر أتباع النهضة في الداخل الأكثر فقراً وأكثر محافظة للنهضة على أنها قوة سياسية تمثلهم، بغض النظر عن تصحيحها الأيديولوجي الظاهري. عندما أعلن الغنوشي الابتعاد عن الإسلام التقليدي، أعلن أيضاً الفصل بين الأنشطة السياسية والدينية للحزب.

ما فشل في فهمه العديد من المراقبين أن هذا «النأي» يسمح لقادة الحزب بالتركيز على السياسة في العاصمة، بينما يواصل أعضاء آخرون في المحافظات الانخراط في المجالات المدنية والدينية. وحسب بعض التقارير، فإن النهضة منشغل بالفعل في التحضير للانتخابات البلدية المقررة في الربيع المقبل، أكثر من أي حزب سياسي آخر، ما أثار احتمال أن يتمكن من الهيمنة على القاعدة السياسة الشعبية، في حين لايزال منافسوه يركزون على المناورات في العاصمة. وفي هذا الصدد يمكن النظر إلى قرار مايو على أنه أحدث محاولة للحزب لتلبية احتياجات السكان المتنوعة في البلاد، وفي الوقت نفسه محافظة الحزب على نفسه قوةً سياسيةً كبرى تعزز الديمقراطية الوليدة في تونس.

يقول المحلل السياسي يوسف شريف «كثيراً ما نسمع الناس يقولون إن حزب النهضة، ككيان ديني، يتعارض مع طريقة الحياة التونسية، وإن التونسيين ثاروا ضد النهضة»، لكنه أشار إلى أن هذا لا ينطبق على الجميع. ويعتقد أن «هناك العديد من الناس الذين تظل رؤيتهم للمجتمع، وأسلوب الحياة، أكثر محافظة وأقل ليبرالية وأقل غربية، وأن هذه الشريحة من السكان لا يمكن تجاهلها»، وهؤلاء هم الناخبون الذين يشكلون قاعدة النهضة، وأن النهضة لايزال يركز على استقطاب ولائهم. وفي الوقت نفسه، فمن خلال تبني صورة معتدلة بين مناطق الحضر والنخبة العلمانية، وفي تونس العاصمة وحولها، فإن حزب الغنوشي يسعى أيضاً للتغلب على الفجوة العميقة بين العاصمة والمناطق النائية.

ويعتقد شريف أن «النهضة قد لا يغوي خصومه، لكنه على الأقل سيعمل على تهدئتهم»، عندما سألت المتحدثة الدولية باسم النهضة، يسرا الغنوشي، عن إعادة صياغة النهضة سياسياً، ردت بأن الحاجة ملحة لكل من الحزب وتونس، ولهذا استطاع النهضة أن يتجاوز الأيديولوجيا. وترى أن القرار جاء رد فعل على شكوى على نطاق واسع في أوساط الجمهور، فعلى الرغم من أن السياسيين في البرلمان يتجادلون في مزايا أو عيوب الدين في السياسة، فإن الناس العاديين يعانون البطالة، وكما ذكرت - والحديث هنا لكاتب المقال - في أماكن أخرى، فإن النهضة انحنت للعاصفة في فترة ما بعد الثورة من خلال إظهار قدرة فائقة على البراغماتية، والاعتماد على أعمدة معينة في أيديولوجيتها الإسلامية، والدخول في تحالفات مع خصومها من أجل الحفاظ على صمود التحول الديمقراطي. وعلى الرغم من فشل الحزب والتنازلات الكثيرة للناخبين التونسيين فليس هناك حتى الآن أي بديل لحزب النهضة، وكما هي الحال بالنسبة لكثير من التونسيين، ليس هناك بديل لـ«نداء تونس» الذي أصبح قوة سياسية بارزة، رغم ارتباطاته بالديكتاتورية السابقة ونواقصها الداخلية الخاصة بها. ويبقى أن نرى ما إذا كان الفصل الرسمي للنهضة بين الأنشطة السياسية والدينية سيولد جدالاً ملموساً وأكثر فعالية سياسة.

كارينا بيسر - محررة في مجلة «وورلد بوليتكس ريفيو»

الأكثر مشاركة