أشاع الفوضى وأدخل المنطقة في اضطراب دائم
«الربيع العربي» يدمر 5 مناطـــــــــق عربية (1-3)
أفردت صحيفة «نيويورك تايمز» عدداً من صفحاتها لنشر موضوع موسع يروي أسباب التفكك الذي اعترى العالم العربي، جراء غزو العراق في 2003، الذي أدى الى الكارثة التي فتّتت العالم العربي، ما أدى بالتالي إلى صعود تنظيم «داعش» الإرهابي، وتفاقم أزمة اللاجئين عالمياً. وذكرت الصحيفة أن الرقعة الجغرافية لهذه الكارثة متسعة وأسبابها كثيرة، إلا أن عواقبها أفرزت حروباً أهلية، وعدم استقرار في جميع أنحاء العالم. وتناولت الصحيفة خمس مناطق عربية تكشفت فيها مآسي «الربيع العربي» بشكل أوضح، هي مصر وليبيا وسورية والعراق وكردستان العراق.
بدأ «الربيع العربي» بإشعال محمد البوعزيزي، التونسي بائع الفاكهة والخضراوات، النار في نفسه احتجاجاً على المضايقات الحكومية، ومات متأثراً بجروحه في 4 يناير 2011، وخرج المحتجون في البداية إلى شوارع تونس للمطالبة بالإصلاح الاقتصادي، ثم طالبوا باستقالة الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، الرئيس القوي الذي حكم البلاد لمدة 23 عاماً. وفي الأيام اللاحقة، ازدادت تلك التظاهرات كثافة وحدة واكتسبت زخماً لتتجاوز الحدود التونسية. وبحلول نهاية يناير، امتدت الاحتجاجات المناهضة للحكومة إلى الجزائر ومصر وعمان والأردن. وكانت هذه فقط البداية. بحلول نوفمبر، أي بعد 10 أشهر فقط من وفاة البوعزيزي، تمت الاطاحة بأربعة من حكام الشرق الأوسط، وتعرّضت مجموعة من الحكومات الأخرى لهزة عنيفة، ووعدت بإجراء إصلاحات، وانطلقت التظاهرات المناهضة للحكومة، بعضها سلمي، والبعض الآخر عنيف.
امتصاص غضب الشعوب
لعقود خلت برعت الأنظمة الديكتاتورية العربية في توجيه غضب شعوبها تجاه الأعداء الخارجيين، مثل الصهيونية والغرب والامبريالية، لإلهائهم عن مساوئ الحكم، إلا أن «الربيع العربي» أثبت أن هذه اللعبة القديمة لم تعد تنجح. وللمرة الأولى بدأت شعوب الشرق الأوسط توجه غضبها مباشرة على الأنظمة نفسها.
• يمكننا القول إن أزمة العالم العربي لها جذورها الضاربة في الحرب العالمية الأولى، إنها أزمة إقليمية حدثت بسرعة، وعلى نطاق واسع. • إشعال البوعزيزي النار في نفسه لم يكن المحفز الرئيس لانطلاق «الربيع العربي». 5 فصول تم تقسيم التحقيق الاستقصائي إلى 5 فصول، تناول الفصل الأول منها “أصول الأزمات من 1972-2003”، في حين تناول الفصل الثاني حرب احتلال العراق “2003-2011”، ثم جاء الفصل الثالث مفرداً للربيع العربي “2011-2014”. وخصص التحقيق فصلاً مستقلاً لتنظيم الدولة “2014-2015”، وفي الختام تناول التحقيق الاستقصائي الهجرة والنزوح الجماعي “2015-2016”. التحقيق المطول كان حافلاً بالمئات من الصور التي التقطت من مناطق مختلفة من العالم العربي بعدسة المصور العالمي باولو بيلغرين، الذي شارك بإعداد هذا التحقيق، إضافة لمصورين آخرين، كما أسهم معهد بوينتر للصحافة بدعم الملف. ركود سياسي إذا كانت قصة الربيع العربي بدأت مع قيام بائع الفاكهة التونسي محمد البوعزيزي بحرق نفسه، فإن لا أحد كان يتوقع أن تكون مآلات الأمور كما هي عليه اليوم. يقول كاتب التحقيق إنه - ككاتب له خبرة بالشرق الأوسط- اعتبر تلك البدايات للثورة في العالم العربي ربيعاً طال انتظاره، وتحديداً منذ العام 1970، مشيراً إلى أنه سافر وهو صبي إلى المنطقة برفقة والده متاثراً بسحر بلاد الشرق الأوسط وحبه للصحراء. كما أن تلك المنطقة شهدت أولى رحلاته الصحافية، وكان ذلك في العام 1983، حيث “ذهبت إلى بيروت لتغطية الحرب الأهلية آنذاك، وعلى مدى سنوات العمل تلك تنقلت في العمل بالمنطقة من بيروت، إلى الضفة الغربية، إلى دارفور، وصولاً إلى إجراء مقابلات مع عائلات الانتحاريين”. ويتابع الكاتب: «كانت المنطقة تعاني من ركود سياسي كبير، فأغلب حكامها يبلغون سنوات طويلة في الحكم، لذا سرني الربيع العربي وهذا الغضب الشعبي العارم الذي تفجر، فلقد كانت القيادات العربية توجه هذا الغضب في السابق إلى من تصفهم بالأعداء؛ وهم الغرب، والصهيونية، والإمبريالية، غير أن هذا الغضب تفجر فجأة وبشكل عفوي كبير تجاه الحكام والأنظمة». |
إلا أن كل شيء ذهب في الاتجاه الخاطئ، فبحلول صيف عام 2012، انزلقت دولتان في أتون الفوضى والطائفية، بعد أن تحررتا من الديكتاتورية، هما ليبيا واليمن، في حين تحول النضال ضد حكومة بشار الأسد في سورية إلى حرب أهلية شرسة. وفي مصر خرج الناشطون الشباب أنفسهم، الذين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة في وقت سابق بالديمقراطية، ليطالبوا بإسقاط الحكومة المنتخبة، وكانت نقطة تحول في «الربيع العربي». ووسط هذه الحالة من الفوضى، خرجت من رحم تنظيم «القاعدة» الحركة الإرهابية الشرسة التي تعرف باسم «داعش»، بعد أن تهيأت لها الظروف المناسبة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا انحرفت هذه الحركات عن مسارها الصحيح، وهي التي بدأت واعدة؟
طبيعة تفتّت دول «الربيع العربي»، يجعل من الصعب تقديم إجابة واحدة لهذا الانحراف. فقد تغيرت بعض الدول بشكل جذري، وحتى أن البعض الآخر لم تصل اليه الشرارة أبداً أو بالكاد. وكانت بعض الدول المتأثرة ثرية نسبياً، مثل ليبيا، والبعض الآخر معدماً بشكل كبير، مثل اليمن. وبدأت الثورة في بعض البلدان التي تحكمها ديكتاتوريات حميدة نسبياً، مثل تونس، واشتعلت الثورة في بعض من البلدان ذات النظام الأكثر وحشية، مثل سورية.
وتمخّض عن كل ذلك نمط واحد، لكنه لافت للنظر، وهو أنه في حين أن معظم الدول الـ22 التي تشكل العالم العربي قد طالها إلى حد ما «الربيع العربي»، فإن الدول الست التي تأثرت عميقاً أكثر من غيرها هي مصر، العراق، ليبيا، سورية، تونس واليمن، وكلها جمهوريات، وأن ثلاثاً من بين الست، العراق وسورية وليبيا، تفككت تماماً للحد الذي يعتقد البعض أنها لن تعود مرة أخرى كدول فاعلة. وجميعها تقع ضمن القائمة الصغيرة للدول العربية التي أنشأتها القوى الاستعمارية الغربية في وقت مبكر من القرن العشرين. ولا تهتم أي منها بالتماسك الوطني، ولا تحفل حتى بالانقسامات القبلية أو الطائفية. وبالتأكيد، فإن مثل هذه الانقسامات الداخلية نفسها موجودة في العديد من الدول الأخرى في المنطقة، ولكن لا يمكن إنكار اهمية هذين العاملين، إذ إن عدم وجود شعور بالهوية الوطنية، وشكل من أشكال الحكومة لا يهتم بالنظام التقليدي للمجتمع، جعل كلاً من العراق وسورية وليبيا تبدو ضعيفة عندما هبت عواصف التغيير.
اختارت الصحيفة ستة أشخاص من مناطق مختلفة في الشرق الأوسط، لكنهم يتشاركون التجربة والاحساس نفسيهما، الذي يتشاركه الملايين من سكان المنطقة الآخرين، تجربة الانهيار الكبير الذي حاق بالشرق الأوسط، الذي غيّر حياتهم إلى الأبد جراء الاضطرابات التي بدأت في عام 2003 مع الغزو الأميركي للعراق، ثم تسارعت وتيرة الأحداث مع سلسلة من الثورات والانتفاضات الجماعية التي عرفت في الغرب باسم «الربيع العربي»، ولاتزال آثارها جلية في عمليات «داعش» الإرهابية، وظهور الدول الفاشلة.
تبلورت تجربة كل واحد من هؤلاء الأشخاص الستة بشأن الاحداث من خلال حادث واحد محدد. وجاءت تلك اللحظة بالنسبة لعازار ميرخان، خلال طريقه لسنجار، عندما رأى أبشع المخاوف في حياته، أما ليلى سويف في مصر، فجاءت تلك اللحظة عندما خرج شاب من بين المتظاهرين ليحتضنها، لحظتها أدركت أن الثورة ستنجح، أما مجدي المنقوش في ليبيا، فقد فاجأته تلك اللحظة عندما كان يسير عبر نطاق يتربص في داخله الموت لكل من يقترب، وتملّكته نشوة مفاجئة، شعر خلالها للمرة الأولى أنه حر. وبالنسبة لخلود الزيدي في العراق، فقد علمت من مجرد بضع كلمات من صديقة سابقة، أن كل ما كافحت لأجله قد ذهب أدراج الرياح. أما مجد إبراهيم في سورية، فلن ينسى تلك اللحظة عندما اخذ أحد المحققين هاتفه المحمول ليقرأ ما بداخله، فأدرك أن لحظة إعدامه قد أصبحت أكثر قرباً من أي وقت مضى. أما العراقي وكاظ حسن، وهو شاب ليس له علاقة واضحة بالسياسة أو الدين، فيتذكر ذلك اليوم الذي ظهر فيه مسلحون من «داعش» في قريته، وعرضوا عليه الاختيار.
وفي الواقع، فإن جميع الأشخاص الستة، عدا واحد فقط، الذين عبروا عن شعورهم وآرائهم هنا عن المستقبل، ينتمون إلى هذه «الدول المصطنعة»، وتتجذر قصصهم الفردية في القصة الكبيرة التي تروي كيف ظهرت تلك الدول الى الوجود في نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما قسم اثنان من الحلفاء المنتصرين في الحرب بريطانيا وفرنسا، أراضي الإمبراطورية العثمانية المهزومة في ما بينهما كغنائم حرب. ففي بلاد ما بين النهرين، ضم البريطانيون ثلاث ولايات عثمانية تتمتع بحكم شبه ذاتي، وأطلقوا عليها اسم العراق. ويسيطر على أقصى الجنوب من هذه المحافظات العرب الشيعة، وفي الوسط العرب السنة، وفي أقصى الشمال الأكراد. وإلى الغرب من العراق، انتهجت القوى الأوروبية اتجاهاً معاكساً، حيث قسمت الأراضي الشاسعة التي تسمى بـ«سورية الكبرى» إلى قطع أصغر، أكثر قابلية للإدارة. ووضعت القوى تحت الحكم الفرنسي دويلة أصغر أطلقت عليها اسم سورية، وأطلقت اسم لبنان على الجيب الساحلي، في حين سيطر البريطانيون على فلسطين وشرق الأردن، وهي رقعة من جنوب سورية أصبحت في نهاية المطاف إسرائيل والأردن. وفي وقت لاحق من هذه اللعبة، في عام 1934، ضمت إيطاليا اليها دول شمال إفريقيا القديمة الثلاث التي كانت قد انتزعت من العثمانيين في عام 1912 لتشكيل مستعمرة ليبيا.
وللحفاظ على سيادة هذه الأراضي المقسمة، اعتمدت الدول الأوروبية على النهج نفسه لمقولة «فرّق تسد»، الذي استطاعت به استعمار إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. ويتألف ذلك من تمكين أقلية عرقية أو دينية محلية لتكون بمثابة المسؤول المحلي، على أساس أن هذه الأقلية لن تتمرد على المستعمر الأجنبي إذا أحست بالظلم.
هذا فقط على المستوى العلني لاستراتيجية «فرّق تسد» التي تبنّاها الأوروبيون، ولكن تكمن تحت الانقسامات الطائفية والإقليمية داخل هذه «الأمم»، أنظمة قبلية وعشائرية واجتماعية في غاية التعقيد، التي ظلت مصدراً أساسياً لتحديد الهوية والولاء. وبالتالي فإن الإيطاليين والبريطانيين والفرنسيين أثبتوا مهارة وجدارة في تأليب هذه الجماعات على بعضها بعضاً، وفي الغرب الأميركي، بقي المستوطنون، وتم تدمير النظام القبلي أساساً، أما في العالم العربي، فإن الأوروبيين غادروا في نهاية المطاف، ولكن لاتزال الانقسامات الطائفية والقبلية موجودة هناك.
ويبدو أن إشعال البوعزيزي النار في نفسه عام 2011 لم يكن المحفز الرئيس لانطلاق «الربيع العربي»، وإنما كانت التوترات والتناقضات تغلي تحت السطح في المجتمع العربي لفترة طويلة. وفي الواقع، ففي جميع أنحاء العالم العربي، لا يستطيع أي مواطن عربي الاشارة الى حادثة واحدة وقعت قبل ثماني سنوات من موت البوعزيزي، أكثر من لحظة تفكيك الغزو الأميركي للعراق تمثال صدام. ويشير العديد من المحللين إلى تلك اللحظة الفريدة من نوعها التي أشعلت الاضطرابات في ما بعد. فقد حدثت تلك اللحظة بعد ظهر يوم 9 أبريل 2003، في ساحة الفردوس في وسط بغداد، عندما اقتلعت رافعة بمساعدة مدرعة أميركية، التمثال الشاهق للرئيس العراقي السابق، صدام حسين، لتلقيه على الأرض.
وبينما يتذكر الآن العالم العربي ذلك اليوم باستياء، كانت تلك الحادثة ترمز للتدخل الغربي في منطقتهم. وللمرة الأولى في حياتهم، أدرك السوريون والليبيون، وغيرهم من العرب، أن شخصية صعبة المراس مثل صدام حسين يمكن «إلقاؤها جانباً»، وأن الشلل السياسي والاجتماعي الذي طالما ظل عقبة أمام إرادتهم الجماعية، قد زال. لكنهم لم يدركوا أن هؤلاء الحكام الأقوياء بذلوا في الواقع قدراً كبيراً من الجهد لابقاء أممهم موحدة، وفي غيابهم ظهرت القوة القبلية والطائفية لتمارس سلطتها الخاصة بها، ولكن الكثير من الناس لا يتضح لديهم أن هذه القوى استطاعت أن تستدرج الولايات المتحدة، وتلحق ضرراً بالغاً بقوتها وهيبتها في المنطقة، إلى الحد الذي لم تستطع أن تفيق منه أبداً.
القذافي يتنبأ بما سيحدث من فوضى
ويبدو أن هناك رجلاً واحداً تنبأ بالفوضى التي ستعم العالم العربي في ما بعد. فقد شهد الجزء الأكبر من عام 2002، مساعي إدارة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، في ايجاد المبررات لغزو العراق، متهمة صدام حسين بامتلاكه برنامجاً لإنتاج أسلحة الدمار الشامل. وبشكل غير مباشر ربطت بينه وبين هجمات 11 سبتمبر. ويتحدث كاتب المقال، سكوت أندرسون، في «نيويورك تايمز»، قائلاً: «في أكتوبر 2002، وذلك قبل ستة أشهر من حادث ساحة الفردوس، كان لي حديث طويل مع الزعيم الليبي معمر القذافي، وسألته عن الجهة المستفيدة إذا حدث غزو العراق فعلاً، وكان الديكتاتور الليبي عادة ما يفكر مطولاً قبل الإجابة عن أسئلتي، ولكن كان رده على السؤال في اللحظة نفسها عندما قال: بن لادن. وواصل حديثه: ليس هناك شك في ذلك، ويمكن للعراق في نهاية المطاف أن يصبح الأرض التي ينطلق منها تنظيم (القاعدة)، لأنه إذا انهارت حكومة صدام، ستعم الفوضى في العراق، وإذا حدث ذلك، فإن أي قتال ضد الأميركيين يعتبر جهاداً».
يقول كاتب المقال: «حاولت أن أروي قصة إنسانية، قصة لأبطالها نصيب من الإطراء، أو حتى بصيص من الأمل، ولكني في نهاية المطاف، وجدت نفسي أمام تحذير مغرق في السواد، ووجدت أن المأساة والعنف يطفحان فوق دفتي الشرق الأوسط، مع ما يقرب من مليون سوري وعراقي فروا نحو أوروبا هرباً من الحروب في بلدانهم، وطالت الهجمات الإرهابية دكا وباريس، واجتاح القتل الجماعي سان برناردينو وأورلاندو، وأصبحت قضايا الهجرة والإرهاب موضوعين مرتبطين مع بعضهما بعضاً في أذهان كثير من الأميركيين، وأصبحا نقطة ساخنة في المجادلات السياسية في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويمكننا القول إن أزمة العالم العربي لها جذورها الضاربة في الحرب العالمية الأولى، إنها أزمة إقليمية حدثت بسرعة، وعلى نطاق واسع، من دون أسباب ظاهرية أو منطقية كما يبدو في الواقع، لتؤثر في الأحداث في كل ركن من أركان المعمورة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news