محاربة «التطرف» هدف إسلامــي - مسيحي مـشترك

يشكل المسيحيون والمسلمون نصف سكان العالم تقريباً، وطبيعة العلاقة بين الطرفين مهمة للغاية، من أجل الحياة الكريمة للعائلة البشرية برمتها.

نهضة فكرية

يقول الكاتب أحمد عباس صالح في مقال نشرته الزميلة «الشرق الأوسط»: «لا شك أن العالم الإسلامي في حاجة الى نهضة فكرية وإلى إعادة النظر في مشروعاته الحداثية التي فشلت لهذا السبب أو ذاك. ومع ان المصالح تلعب دوراً في وقف أو تشجيع هذه النهضة، إلا أن هذه النهضة كامنة في التركيب الاقتصادي والاجتماعي في الكثير من الدول الإسلامية، وتجمعت لديها ذخيرة ليست هيّنة طوال الـ200 سنة الماضية.

أما الجانب الغربي فلم يعد لديه مفر من مراجعة كل الأفكار المنتشرة في بقاعه المختلفة، واتجاهات مصالحه وتأويلاتها الفكرية. إن الغرب، باعتباره ممثل الحضارة الغربية السائدة او المنتصرة، لم يتبين بعد أن العالم الانساني يعيش ظروفاً مختلفة تماماً عن الظروف التي كانت قائمة طوال القرن العشرين. إن الصناعة والتجارة والازدهار الاقتصادي لم تعد مسنودة بالضرورة باستنزاف ثروات وجهود الآخرين، بل من الممكن تحقيق الازدهار على مستوى العالم الذي أصبح بالفعل «قريتنا».

إن ضرب المركز العالمي للتجارة في نيويورك أو حتى ضرب مبنى البنتاغون، ثم هذا الجنون الذي نراه في استخدام الحرب الميكروبية، وربما الأسلحة الاخرى فائقة التدمير، لم يُصب نيويورك أو واشنطن وحدها، بل أصاب كل العالم تقريباً. والفجوات الثقافية التي نراها بين العالم الغربي المتقدم والعوالم الاخرى، بما فيها العالم الإسلامي، ليست إلا دروعاً لحفظ التوازن النفسي، لا تلبث ان تزول عندما يعرف الناس حقيقة مشكلاتهم.

العالم في حاجة حقيقية الى نظام دولي جديد، الى ديمقراطية دولية واحتكام الى قانون يرتضيه الناس ويضعونه بأنفسهم. وليس هناك أكثر غرابة من تصور المواطن الغربي العادي عن العالم الإسلامي على أنه غامض ومملوء بالاحتمالات الخطرة.

لقد سكت العالم «المتقدم» عن الاختلالات الموجودة في العالم، وانتهى الأمر الى هذه الأوضاع المختلة وإلى تلك الفجوة المفتعلة والقائمة في الذهن اكثر مما هي قائمة في الواقع بين الغرب والشرق وبين ثقافة وثقافة، ويبدو أنه في مقدور العالم اليوم أن يخرج من مرحلة الصراع من أجل المنافع الى المشاركة العامة في كوكبنا، الذي لم يعد يحتمل مزيداً من الاختلالات البيئية والاجتماعية.

والمهم أن السلام يكمن في قلب المسيحية والإسلام، ويدعو المسيحيون السيد المسيح بـ«أمير السلام» من أجل سلام الرب، وهي قلب عالمهم الروحي. وفي الإسلام فإن «السلام» أحد أسماء الله الحسنى، البالغ عددها 99 اسماً، وهو أحد أجمل هذه الأسماء. وعندما يلتقي المسلمون مع بعضهم يحيّون بعضهم بعضاً بكلمة «السلام عليكم».

وفي ظل هذه التهديدات القاتلة التي تواجه الإنسانية والكوكب بحد ذاته اليوم، ثمة مساهمة مهمة يمكن أن يقدمها العالمان الإسلامي والمسيحي، وثمة امكانية كبيرة للتعاون بين هذين العالمين، والعمل معاً من أجل العدل الاجتماعي، من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب للحفاظ والترويج للحرية الدينية، بهدف حل الصراعات سلمياً، من أجل معالجة مآسي اللاجئين والمشردين.

ويشترك المسيحيون والمسلمون في المجتمعات التي يعيشون فيها بالفهم الروحي، وأحياناً يشتركون معاً لمواجهة التهديدات المشتركة أو النضال معاً نحو الأهداف الاجتماعية والسياسية المشتركة. وثمة مكان في هذا العالم، اليوم، يكون فيه مثل هذا التبادل جزءاً من التجربة اليومية للمسيحيين والمسلمين. وخلال العملية يكتسب كلٌ منهم فهماً جديداً لله الذي يعبدونه، ويكتشفون مصادر جديدة يمكن أن تساعدهم ليصبحوا أكثر إنسانية، وأكثر حساسية لحاجات الآخرين، وبالتالي فإنهم سيحققون الأهداف التي من أجلها خلق الله البشرية. وفي نهاية المطاف، فإن هذا التبادل والتحول المتبادل يمكن أن يؤدي إلى إثراء جميع العائلة الإنسانية.

اتفاق على التمسّك بالتعايش

وفي الواقع، فإن التعايش والتعاون بين الديانتين الأكبر في العالم امتد منذ مئات السنين حتى وقتنا الحاضر، فبعد أن أكد وزير الخارجية الاميركي جون كيري، أخيراً، ما عرفه الكثيرون، والذي مفاده أن تنظيم «داعش» الإرهابي يرتكب جرائم قتل ضد المسيحيين والأقليات من الأديان الأخرى في الشرق الأوسط، انبرى 200 زعيم ديني، ورئيس دولة وعالم دين إلى الاجتماع في يناير الماضي في المغرب العربي. وأصدروا «إعلان مراكش» الذي يدعو الدول ذات الغالبية المسلمة، إلى حماية حرية الأقليات الدينية، بمن فيهم المسيحيون.

وقبل نحو أربعة أشهر قام 300 قائد ديني مسلم، جاؤوا من 30 دولة بفعل الأمر ذاته، حيث اجتمعوا في جاكرتا، العاصمة الإندونيسية، وهي الدولة التي يوجد بها أكبر عدد من السكان المسلمين في العالم، كما أنها معروفة تاريخياً بتسامحها الديني، واستنكر هؤلاء الزعماء الدينيون التطرف وعملوا على معالجة أسبابه.

واستضافت إندونيسيا مؤتمر «نهضة الأمة»، وهي أكبر منظمة إسلامية في العالم، وتم افتتاح المؤتمر من قبل نائب رئيس هذه الدولة التي تعتبر رسمياً علمانية. ويبلغ تعداد أعضاء هذه المنظمة ما بين 30 و50 مليون عضو، ومعظمهم من الإندونيسيين. وتصل نسبة المسلمين في إندونيسيا، التي يبلغ تعداد سكانها 250 مليون نسمة، إلى 87%، في حين أن المسيحيين يشكلون 10%، والباقي من الهندوس والبوذيين.

ووقّع المشاركون في المؤتمر على «إعلان جاكرتا» الذي ركز على فكرتين أساسيتين، الأولى، هي طريقة استيعاب إسلام إندونيسيا للثقافة المحلية، حيث يروج لمعبد بوذي قديم باعتباره موقعاً تاريخياً، يمكن أن يكون مثلاً يحتذى. والثانية أن التطرف ينتشر في الأماكن التي يتم فيها التفسير الرديء للإرث الديني، والذي يرفض التوفيق بين الإسلام والوطنية.

وقال يحيى تشوليس ستاقوف من قيادات نهضة الأمة: «أول شيء يجب القيام به للتغلب على التطرف والإرهاب هو الصدق، إذ إن ثمة عناصر من الإسلام يتم توظيفها لخدمة المجموعات المتطرفة كي تنفّذ أعمالها».

وقال العالم الإسلامي اللبناني، أمين كردي، إنه ينظر بتقدير «لتجربة منظمة نهضة الأمة في نشر الخير والوسطية للإسلام»، ولبنان واحد من بين 10 دول أعلنت أخيراً عن انشاء فرع مستقل لـ«نهضة الأمة» بهدف الترويج للإسلام السمح. وأصبح هناك 40 دولة حالياً أعضاء مميزين في الهيئة المركزية للمنظمة.

حملة ضد «داعش»

وبدأت منظمة «نهضة الأمة» حملتها الأيديولوجية ضد تنظيم «داعش» في الخريف الماضي، وأنشأت منظمة غير ربحية لتنسيق المؤتمرات وورش العمل التي تروج للإسلام السمح والسلمي. وتقيم «نهضة الأمة» شراكة مع جامعة فيينا في النمسا، لدراسة كيفية مواجهة الدعاية المتطرفة. وحتى الآن تعمل منظمة «نهضة الأمة» بصورة خاصة في أفغانستان، حيث يعمل 6000 زعيم ديني محلي في 22 مكتباً في شتى أنحاء الدولة.

ولابد من القول إنه على الرغم من أن أطرافاً عدة في العالم لا ترغب في وجود مثل هذا التعايش والتسامح بين المسيحيين والمسلمين، وتبذل الجهود لإثبات عكس ذلك، إلا أن الوقائع تظهر غير هذا، إذ إن هناك العديد من رجال الدين المسيحيين يؤيدون القضايا العربية، ويبذلون ما بوسعهم لمساعدة العرب، وهم كثر ومن أشهرهم، على سبيل المثال، مطران القدس هيلاريون كبوجي، الذي قدم مساعدات كثيرة لشعب فلسطين وقضيته، رغم أن ذلك كلّفه السجن في إسرائيل لمدة 12 عاماً. ولا ننسى أيضاً القس الايطالي باولو دال أوليو، الذي عاش في سورية نحو 30 عاماً، وتعاطف مع الشعب السوري إثر اندلاع الحرب الأهلية في هذا البلد، وقدم حياته ازاء موقفه هذا حيث اختفى القس باولو منذ سنوات عدة، ويعتقد على نطاق واسع أنه قُتل.

التعددية المبنية على الحوار

وأوصت ندوة «المسلمون وسبل التعايش مع قيم المجتمعات الأوروبية» بضرورة تفعيل قبول التعددية الثقافية المبنية على الاحترام المتبادل، والتركيز على القيم الإنسانية المشتركة وأولوية الاعتناء بكرامة الإنسان، وضمان حرية المعتقد والحق في ممارسة الشعائر الدينية.

وأوصت الندوة، التي عقدت في برشلونة في مايو من عام 2011، بضرورة إيجاد آليات لربط النقاش الفكري والعلمي بحيثيات الواقع وخصوصياته وإعادة صياغة العلاقة بين الذات والآخر لتجنيب البشرية مخاطر الصراع الحضاري، والحرص على إبقاء جسور التواصل قائمة بين الديانات من جهة، وبينها وبين العلمانية من جهة أخرى.

وخلص المشاركون في الندوة إلى أن التعارض بين القيم الإسلامية والأوروبية لا يوجد سوى في مخيلة ثلة نادرة تسعى للوقيعة بين الحضارتين، وأن الإسلام رافد من روافد الحضارة الغربية وأحد المؤثرين في صناعتها.

ودارت محاور الندوة حول المسلمين وفقه الحداثة والشراكة الحضارية مع الأغيار، وضرورة التداخل بين الروحي والثقافي والقيادة والهوية والمسؤولية في صفوف المسلمين الأوروبيين الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام كالكاتب الفرنسي إيريك جوفروا، والقيادي الإسلامي الإيطالي يحيى سرجيو بلافيسيني. وفي الندوة دعا رئيس المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة المسلمين الطاهر التجكاني، المسلمين إلى احترام القيم الأوروبية اتباعاً لتعاليم القرآن التي تحث المسلمين على التعارف والتعاون.

عمارة الأرض

ولخص التجكاني أشكال التعاون المقترحة على المسلمين الأوروبيين والمجتمعات التي يعيشون فيها بالتعاون على «تحقيق عمارة الأرض والعيش على ظهرها بسلام، ورفع الظلم وتحقيق العدل، ورعاية حقوق الإنسان».

وندد الأستاذ بجامعة الدنمارك يورغن نيلسن بخطاب الكراهية المنتشر في الدنمارك وسويسرا، وقال إن البندين التاسع والحادي عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المتعلقين بحرية الاعتقاد وحرية التعبير، لا يجدان مكاناً للتطبيق على أرض الواقع في أغلب الدول الأوروبية.

وتحدث عن منع بعض مظاهر التدين الإسلامي في أوروبا كالحجاب والنقاب، وإغلاق المدارس والمعاهد الإسلامية.

وشددت معظم المداخلات على أن الحرية الدينية تكفلها الدساتير الأوروبية والميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ولكن الممارسة الفعلية تشوبها كثير من النقائص، وذكروا أمثلة عديدة أبرزها منع الحجاب والنقاب، ومنع المآذن والتضييق في الترخيص لبناء المساجد والمصليات. ونوّه نورالدين الزياني، منسق المؤتمر، إلى أن التطرف هو الحاجز الأشد خطورة على تواصل المسلمين مع ثقافة بلد الاستقبال، وطرح إحدى الآليات العملية التي تمكن من محاصرته، وهو بناء مراكز كبرى تستوعب المسلمين، وتسهم في تجفيف منابع التطرف الذي يعشعش في الأقبية والمرائب.

وقد أبدى رئيس تجمع المسلمين الإيطاليين بإيطاليا، يحيى بالافتشيني، إعجابه باللقاء الذي يتم في إسبانيا البلد الذي شهد انصهار المدنيات والحضارات، حيث كانت قيم التعايش سائدة، والتي ينبغي جعلها منطلقاً تتعلم منه الأجيال الحاضرة.

وتحدث عن التجربة الإيطالية التي تسير بثبات نحو إيجاد توافقات بين المؤسسات الإسلامية العاملة بإيطاليا ومختلف التوجهات السياسية والعقائدية، ما يبشر بمستقبل مشرق لعملية الاندماج الإيجابي، ومذكراً بوثيقة القيم التي وقعتها جهات إسلامية، من بينها مؤسستهم (كورييس).

وأجمع أغلب المتحدثين على أن الإسلام أصبح واقعاً أوروبياً، وأن إسبانيا نموذج يمكنه التدخل في تنظيم الحقل الديني دون التدخل في القضايا الجوهرية.

الأكثر مشاركة