عكا تكرّس الصمود الفلسطيني في وجه «التهويد المسعور»

رغم أن الهوية الإسرائيلية فرضت على فلسطينيي الـ48، أو كما يعرفون بعرب الداخل، مقابل بقائهم في أرضهم المسلوبة، فإن روح العروبة تجري في عروقهم، والصمود حاضر في حياتهم رغم ممارسات الاحتلال لتغيير معالم مدنهم الشامخة على مر التاريخ، بل هم حاضرون في كل مشهد من مشاهد الأحداث الجارية على الساحة الفلسطينية والعربية.

ومن بين هذه المدن التي تشهد حضوراً كبيراً للعرب مدينة عكا، إلى جانب مدينة الناصرة المحتلة وعدد من الأراضي المحتلة مثل حيفا وسخنين.

وطالما تحدثنا عن عكا، فلا مجال أمامنا إلا أن نبحر في هذه المدينة الساحلية، التي تستهوي قلب كل فلسطيني أينما كان، فالقادم إلى عكا سواء من البحر أو البر يهتدي إليها من خلال الأسوار الشامخة التي قهرت نابليون وعساكره، وكذلك المنارة ومآذن المساجد وأجراس الكنائس تخبره بأنه في مدينة الظاهر عمر وأحمد باشا الجزار.

هذه المعالم الباقية إلى يومنا هذا، والتي تتفاخر بها عكا كإرث حضاري زاخر، لا تلغي الحقيقة المرة لواقعها في وقتنا الحالي، فهي كالابتسامة التي تخفي وراءها مأساة كبيرة حتى لا يضيع رونقها الذي شهدته الحضارات الماضية، وتكتم في داخلها صرخات التاريخ التي تدوي في كل مكان في المدينة.

• بعد تهويد المنازل والمعالم التاريخية، جاء الدور على الأسماء الفلسطينية والتاريخية لمدينة عكا ومعالمها، في محاولة لطمس اللغة العربية عن اليافطات واللافتات لفرض واقع جديد على السكان، وتزوير التاريخ والثقافة، وخلق حالة من الاغتراب بين الإنسان والمكان.

فعكا اليوم محصورة بين أسوارها وبحرها، تقف يتيمة في وجه حرب المخططات اللامتناهية لتهويد كل شيء فيها، وطمس معالمها التاريخية الإسلامية والعربية، وإرغام سكانها الفلسطينيين والبالغ عددهم اليوم 18 ألفاً على الرحيل، واستقدام عدد كبير من اليهود إلى عكا، لزيادة عددهم البالغ حالياً 32 ألفاً، والذين احتلوها وسيطروا على عدد كبير من منازلها.

مأساة مكتومة

تعد عكا وهي من كبرى المدن الفلسطينية المحتلة مدينة مختلطة، إذ يزاحم فيها اليهود الفلسطينيين الصامدين في أرضهم على مر السنين، فقد اقتحموا هذه المدينة الهادئة، وعكروا صفوها، واستولوا على المنازل والأراضي بشتى طرق، ليعيش الفلسطينيون مجبرين مأساة حقيقية يكتمونها في قلوبهم، حتى لا يضعف صمودهم أمام مخططات يحيكها المحتل طوال الوقت.

هذه المأساة يترجمها الحاج الستيني أبوشوكت الذي التقته «الإمارات اليوم»، بينما كان يسير في أزقة البلدة القديمة بعكا، حيث يقول بعد أن تنهد تنهيدة كبيرة تكفي أن تحكي الأوجاع التي يكتمها في قلبه كالآلاف من سكان عكا، «68 عاماً مضت ونحن باقون في عكا، ونتصدى لأي خطر يهددها، في ظل تزايد المخططات الهادفة إلى اقتلاعنا من أرضنا، ولكن رغم ذلك مازلنا صامدين، ولكن المؤلم أن منازلنا تضيع أمامنا ويسكنها اليهود الذين يسمح لهم بالتوسع والبناء، أما منازلنا فهي قديمة، والاحتلال يمنعنا من ترميمها والتوسع بداخلها».

ويواجه أبوشوكت معاناة كبيرة، تتلخص في عجز ولديه اللذين اقتربا من سن الثلاثين عن الزواج، فمنزله القديم ضيق، ولا يسمح له الاحتلال بأن يوسعه، أو حتى يجري أي عملية ترميم بسيطة بداخلة، وإن كان الاحتلال لا يسمح لهم بذلك فمن الطبيعي أن شراء منزل في أي منطقة يعد كمن يدور داخل دائرة مغلقة.

تركنا أبوشوكت وحده بعد أن احتسينا معه كوباً من الشاي الدافئ، كدفء المعالم الأثرية الباقية في عكا إلى يومنا هذا، ولكن من يتجول أكثر في البلدة القديمة سرعان ما يشاهد بؤساً يقاوم هذا الدفء يتجسد في الفقر والبطالة، لتجد شباباً يصطفون على الطرقات، ومقاهي أصبحت مرتعاً للعاطلين عن العمل، وأطفالاً يطلون من شبابيك المنازل القديمة على أفق لا ينذر بخير لمستقبلهم، وتجاراً في السوق يشكون الأحوال البائسة، متحسرين على أيام خير مضت.

خنق الصيادين

خلال السير داخل عكا القديمة تقودك قدماك إلى ميناء عكا، مشهد يأسر القلوب، ولكن سرعان ما يدميها عندما ترى علم الاحتلال قد رفع قسراً على حوض الميناء والمراكب، كما رفع على غيرها من المعالم الأثرية مثل خان العمدان، ليشوه المنظر الجمالي للميناء الذي يحتضن خلفه مشهداً من أروع المشاهد، فمن الميناء ترى المساجد التاريخية كمسجد المعلق ظاهر العمر، ومسجد أحمد باشا الجزار، وجامع الميناء.

خلال تواجدنا على بحر عكا استوقفنا مشهد صياد في الأربعين من عمره، يقف على إحدى الصخور داخل بحر عكا، ويحمل صنارة في محاولة منه لصيد السمك، ليتمكن من توفير قوت يومه هو وأطفاله.

يقول الصياد منذر الأيبكي لـ«الإمارات اليوم»، «إن حالنا تغير إلى الأسوأ، فغالبية سكان عكا يعتمدون على صيد الأسماك، وقد حاربونا في هذه المهنة، إذ يضيقون علينا في كل وقت، ويغلقون مناطق واسعة من البحر أمامنا بذريعة أنها مناطق عسكرية، ولدواعٍ أمنية مختلفة».

وتتسبب الممارسات والمخططات التي ينفذها الاحتلال في تضييق الخناق على الصيادين العرب، الذين يمثلون 90% من صيادي عكا، والذين يتعرضون لمخطط تهويدي يهدف إلى تجفيف 100 دونم من مياه بحر عكا في منطقة «حي بربور» القريب من ميناء الصيادين المحاذي للبلدة القديمة، إذ أعلنت ما يعرف بـ«دائرة أراضي إسرائيل» هذا المشروع، الذي سيتم بموجبه تحويل الأراضي التي سيتم تجفيفها إلى متنزه ومنتجعات سياحية وترفيهية وفنادق وشقق سكنية فخمة.

تهويد

وإن كانت المنازل والمعالم التاريخية قد تعرضت للتهويد، فإن الأسماء الفلسطينية والتاريخية لمدينة عكا ومعالمها قد تعرضت لهذا «الهوس التهويدي» في محاولة لإقصاء اللغة عن اليافطات واللافتات لفرض واقع جديد على السكان، وتزوير التاريخ والثقافة، وخلق حالة من الاغتراب بين الإنسان والمكان.

ويظهر ذلك في التغييرات التي أجراها الاحتلال على أسماء الأماكن والشوارع والساحات العامة من الاسم العربي الأصيل لها، إلى اسم يهودي جديد، إذ تحوّل اسم السوق الشعبي بعكا إلى «سوق ماركو بولو»، والميناء إلى «رصيف الرمبام»، وساحة الصيادين إلى «فنيسيا»، كما تحولت ساحة الكنيسة إلى «جنوا»، وحي الفاخورة إلى «البيزاني»، وساحة الكراكون إلى ما يعرف بشارع «الهجناة».

كما تعيش المؤسسات التعليمية في المدينة أوضاعاً مأساوية نتيجة الإهمال المتعمد من قبل الاحتلال، ما يضطر البعض لتعليم أبنائهم في حيفا والقرى المحيطة، في ظل حالة الفقر والبطالة التي تعصف بهم، كما يحرم الاحتلال سكان عكا الأصليين من مصادر العمل وتفضيل اليهود عليهم في عملية التوظيف.

الأكثر مشاركة