ألفريد العظيم.. محطم أسطورة «الفايكينغ» ومؤسس المجد الإنجليزي
لم يعرف التاريخ الإنجليزي شخصية عظيمة، يحتفي بها بقدر ما احتفى بالملك ألفريد العظيم (871 - 899 م)، فهو شخصية تعشقها كتب التاريخ والأدب والقانون والأديان. فألفريد هو الملك الوحيد - بل والشخصية الوحيدة في تاريخ الإنجليز - الذي حصل على لقب «العظيم»، وذلك لعظم الأثر الذي تركه في التاريخ الإنجليزي، بجميع جوانبه العسكرية والاجتماعية والقانونية والأدبية. لم يدع ألفريد العظيم مجالاً إلا وترك فيه بصمة كبيرة، لايزال البريطانيون يلمسونها، وليس أدلَّ على ذلك من إنقاذه آخر مملكة إنجليزية، كادت تسقط في يد مقاتلي «الفايكينغ»، ولم يكن مجرد إنقاذ لمملكة يحكمها الأنجلوساكسون الغربيون، بل أنقذ اللغة الإنجليزية، التي بات العالم كله يتحدث بها اليوم، كوسيلة التواصل الأولى بين جميع الشعوب، وذلك بعد أن كادت تموت بفعل سيطرة «الفايكينغ».
فقبل تولي الملك ألفريد العظيم، بدأت الجزيرة الكبيرة (بريطانيا) تفقد هويتها، من ناحية العقيدة واللغة والحضارة، تحت وطأة هجمات مقاتلي «الفايكينغ»، الذين اعتبرتهم أوروبا حينها همج القارة، نتيجة ما فعلوه في الممالك الإنجليزية من دمار، وقتل، ونهب الثروات ونقلها إلى مسقط رأسهم في اسكندنافيا.
المشهد قبل تولي ألفريد
بدأت هجمات «الفايكينغ» القادمين من اسكندنافيا على مملكة نورثمبريا، إحدى الممالك الإنجليزية، حيث بدأ الهجوم في 8 يونيو عام 793م، باستهداف دير جزيرة ليندسفارن، الذي كان يتمتع بقيمة دينية عالية في عموم أوروبا، باعتباره مركزاً دينياً، حيث قاموا بذبح الرهبان ونهب الدير، ليعودوا - في ما بعد - بحملات أكبر على «نورثمبريا»، التي كان يحكمها الملك أيلا (جد الملك ألفريد لأمه)، ثم توسعت لتصل إلى مملكة مرسيا.
واختلفت الروايات التاريخية حول أسباب غزو «الفايكينغ» لهذه الممالك، حيث عزاها بعض المؤرخين إلى حملات ومحاكمات الملك شارلمان ضد الوثنيين خلال القرن الثامن، والتي وصلت إلى حد الإبادة، لتأتي الحملات رداً قوياً ضد العالم المسيحي، بالإضافة إلى اضطهاد التجار المسيحيين لتجار «الفايكينغ» الوثنيين وازدرائهم، واعتبارهم كفاراً لا يجب التجارة أو التعامل معهم، ويجب إغلاق الأسواق أمامهم، فيما ذهب البعض الآخر إلى أن هذه الغزوات إنما جاءت ضمن أحلام «الفايكينغ» بالتوسع، والبحث عن الموارد خارج الديار بقيادة راجنار لوثبروك، نتيجة البيئة القاسية لديهم، وقلة المساحات الصالحة للزراعة والرعي.
مع هجمات «الفايكينغ» ضد «نورثمبريا»، كانت تعاني «مرسيا» صراعات العائلة المالكة على عرش المملكة، فيما كان الملك إيكبرت (جد ألفريد) هارباً ولجأ إلى الملك شارلمان، وعمل كأحد قادته العسكريين، بعد أن استولى ابن عمه بريثريك على الحكم في مملكة وسيكس، وبوفاة بريثريك مسموماً على يد زوجته، عاد إيكبرت إلى «وسيكس»، وأعلن نفسه ملكاً في 802م.
استغل إيكبرت هجمات «الفايكينغ» على «نورثمبريا»، والصراع في «مرسيا» لصالح مخططاته لضم المملكتين، إلا أن هجمات «الفايكينغ» عطلت خططه، ومع اشتداد هجمات «الفايكينغ» الدنماركيين، بدأت الكفة العسكرية تميل إلى مصلحتهم، لينتهي المطاف بهم بالسيطرة على مملكتي «أنجليا الشرقية» و«كنت» في 838 م، ونهبوا «كنتربري» و«لندن»، حيث كانت المملكتان تتبعان مملكة وسيكس.
وبوفاة الملك إيكبرت عام 839م، تولى إثيلولف حكم «وسيكس»، والذي حمل لواء الدفاع عن آخر المعاقل الإنجليزية، بعد وفاة والده ومقتل أيلا على يد «الفايكينغ»، وبوفاة إثيلولف عام 858م، دون النجاح في تحرير الممالك الإنجليزية، تولى ابنه إثيلبالد الحكم حتى 860م، ليخلفه أخوه إيثلبرهت حتى عام 865م، ثم إثيلريد الذي أسقط «الفايكينغ» الدنماركيون والسويديون «نورثمبريا» في عهده عام 867م، حيث دمروا فيها كل مظاهر الحياة، وبدأ ينتشر الجهل والفقر بين من تبقى من سكانها.أمام هزائم الممالك الإنجليزية وسقوطها خلال عام 871م، لم يتبقَّ إلا «وسيكس» فقط في أقصى الجنوب الغربي، حيث أصبحت معظم أراضي الجزيرة الكبيرة في يد «الفايكينغ»، لذلك اتجهوا إلى «ريدنج» عاصمة «وسيكس»، ليلقوا الهزيمة على يد إيثلريد وأخيه الأصغر ألفريد، ثم تبعتها معركة أخرى، قتل فيها إيثلريد متأثراً بجروحه، ليتولى ألفريد الملك بعد وفاة ومقتل جميع إخوته الكبار ووالده، دون أن يحرروا الممالك التي خطط إيكبرت لضمها، لإقامة مملكة إنجلترا الكبرى.
عهد ألفريد العظيم
جاء تولي ألفريد مقاليد الحكم في «وسيكس» وسط انتشار الجهل والفقر، وعودة انتشار الوثنية مرة أخرى، بالإضافة إلى نشر «الفايكينغ» لغتهم وعاداتهم في الممالك التي احتلوها، كما ورث تركة ثقيلة من الهزائم العسكرية.
وخلال بدايات غزو «الفايكينغ»، كان ألفريد يتلقى تعليماً كنسياً بمقر البابوية في روما، نتيجة شغف جده إيكبرت ووالدته بالعلم الديني والشعر والثقافة، وقد اعتبره الاثنان مشروعهما، رغم أنه كان أصغر إخوته، وكان من الصعب توقع توليه مقاليد الحكم يوماً ما، حتى عندما تولى ألفريد الحكم، قال إنه لم يكن يتوقع وصوله إلى الحكم، ولم يكن يطمح إلى العرش، فيما كان يعتبر الملك شارلمان مثله الأعلى. كما كانت الأديرة والكنائس - في هذه الحقبة - تحمل شعلة الثقافة والعلم، ما جعل الأدب والثقافة واللغة تكتسب نكهة دينية، أثرت بشكل كبير في ألفريد.
ونتيجة تربيته الكنسية، إلى جانب تربية القصر، أصبح ألفريد رجل دين ودولة، مولعاً بالعلم والثقافة، وأدرك أنه لا سبيل لصد الغزو إلا من خلال تقوية الجبهة الداخلية لـ«وسيكس» بمجتمع متدين متعلم يتسيده العلماء، حيث كان يرى أن غزو «الفايكينغ» انتقام إلهي من الإنجليز، لبعدهم عن الدين وإهمالهم التعليم. ولكي يطبق ألفريد رؤيته للإصلاح، عمد إلى جلب علماء ورهبان من «ويلز»، ومن جميع أنحاء أوروبا. وبدأ بتنظيم قواته العسكرية، وشرع في بناء جيش قوي، كما قام ببناء أسطول حربي كبير أيضاً، مستغلاً فترات الهدنة مع «الفايكينغ»، لترميم مملكته التي أثخنتها الهزائم، من منطق رجل حرب يتقن جميع فنون القتال.
وأمام كل هذا النشاط القوي، أصبح ألفريد يحكم مملكة قوية، بعد أن عانى الهزائم في بداية عهده، وفرَّ هارباً بفلول جيشه، الذي أعاد تنظيمه وبدأ بصد غزوات «الفايكينغ»، ليستعيد ملكه، ويحقق حلم جده بتوحيد الممالك الإنجليزية.
وفي 878م، لقي ألفريد وجيشه هزيمة منكرة على يد «الفايكينغ»، حيث شنوا هجوماً مباغتاً على «وسيكس»، خلال فترة احتفالات، رغم اتفاق سلام بين الطرفين، حيث فوجئ جيش ألفريد بالهجوم، ما تسبب في إرباك قواته، وتمكن «الفايكينغ» - خلال الهجوم - من قتل عدد كبير من أفراد الجيش، فيما فرت أعداد كبيرة منه، ليفرَّ ألفريد إثر الهزيمة مع فلول جيشه إلى المستنقعات والأهوار بإحدى الجزر، لتشكل هذه الهزيمة أكبر محنة تعرض لها الملك العظيم في حياته.وبدأ ملك «وسيكس» - من تلك الجزيرة - إعادة بناء الجيش وتنظيمه، وجمع المزيد من الحلفاء، ومن ثَمَّ شرع في حرب عصابات ضد «الفايكينغ»، بدأ بعدها بتحقيق الانتصارات العسكرية، التي انتهت بإجبار «الفايكينغ» على الانسحاب من «وسيكس» إلى مناطق الشمال والشرق، ليعود ألفريد العظيم إلى ملكه منتصراً، ويشرع في تحقيق أحلامه، بعد أن هزم «الفايكينغ»، وأجبر ملكهم، جوثروم، على اعتناق المسيحية، وأشرف على تعميده بنفسه.
ومع الوقت، عادت الكنائس والأديرة إلى دورها التعليمي والتنويري في «وسيكس» و«كنت»، ونشطت حركة الترجمة عن اللاتينية، التي اختفى التحدث والكتابة بها في ذلك العهد، وقد شارك ألفريد بنفسه في تأليف الكتب والترجمة في مجال الأدب والفلسفة والعقيدة، وكان يتميز بأسلوب لغوي فريد في كتابة النثر، ودأب على تعليم رجال الدين بنفسه، لرفع مستواهم الفكري والتعليمي والثقافي، بناءً على ما تعلمه في روما.
كما ألف كتاباً في مجال القانون، بعنوان: «كتاب الموتى»، وسن تشريعات مطولة تراعي حقوق الطبقات الفقيرة، وحضَّ القضاة ورجال الدين على العدل، وعزل وحاكم القضاة الفاسدين، حتى لقب بـ«حامي الفقراء».
وفي مجال العقيدة، ألف ألفريد كتاب «حوارات غريغوري»، وترجم «المزامير الخمسين الأولى»، وألف كتيبات إرشادية لرهبان الأديرة.
ونشطت حركة الفنون والمعمار في عهده، حيث جلب الفنانين والمعماريين من جميع أنحاء أوروبا، ما أسهم في رفع الذوق العام بمملكته، وجعل شعبه يُقبل بنهم على التعليم والعلوم والفنون والآداب.
وحاول ألفريد كتابة تاريخ الأنجلوساكسون، فدعا المؤرخ الويلزي آسر إلى مملكته، للبدء بتدوين التاريخ الأنجلوساكسوني، وقد سجل آسر فترة حكم ألفريد، وأكد حبه للعلم والعلماء وبناء الدولة، رغم أنه كان يعاني مرضاً خطيراً.
ورغم أن الموسوعة البريطانية «بريتانيكا» تقول إن ألفريد لم يؤلف جميع الكتب المنسوبة إليه، إلا أن دور ألفريد ظل محورياً في إحياء حركة الترجمة ونشر العلوم والآداب، ووحده كان أساس إحياء اللغة الإنجليزية القديمة، بعد أن أمر بضرورة تعلمها، والاهتمام بها كلغة وطنية في مواجهة غزو «الفايكينغ».
وعلى المستوى الدبلوماسي، وسّع ألفريد دائرة علاقاته الخارجية مع أمراء «الكلت» وجنوب ويلز، كما عزز علاقاته مع الخلافة العباسية، ودعم الأديرة والكنائس في عموم أوروبا بالتبرعات والزكوات، ما أكسبه شعبية جارفة وسمعة طيبة.
توفي ألفريد عام 899م، تاركاً خلفه إرثاً عظيماً من الإنجازات في مجالات إدارة الدولة، إلى جانب الانتصارات والبطولات العسكرية، لتمنحه كتب التاريخ لقب «العظيم» عن جدارة، ليمهد لأبنائه ولكل من جاء بعده الطريق لبناء دولة موحدة تشمل أرجاء الجزيرة كافة، والتي أضحت - في ما بعد - «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، ويحفظ لغة صارت اللغة الأولى عالمياً.
وتخليداً لذكراه سُميت بعض الجامعات والكليات وقاعات الدراسة على اسمه.