الكتالونيون والأكراد يكتشفون الحقيقة الصعبة للانفصال
متى آخر مرة تمكنت حركة سياسية من الاستقلال وتحقيق شكل الدولة التي ترغب فيها؟ منذ عقود عدة، باتت هناك قوانين ونظم معروفة، لكنها غير مكتوبة تقرر هذه الإمكانية. ولكن هذه النظم تتضمن عدداً من التناقضات. وفي الوقت الذي يكافح الكتالونيون في إسبانيا، والأكراد يبذلون ما بوسعهم لتحقيق الاستقلال من خلال الاستفتاء الذي أجروه، أصبحت هذه التناقضات واضحة على نحو مزعج.
السقوط في الفجوة ربما أسقط الكتالونيون أنفسهم في هذه الفجوة، باعتقادهم أن رغبتهم في تقرير مصيرهم بصورة ديمقراطية، من شأنه أن يضمن لهم النجاح في مسعاهم للانفصال عن إسبانيا. ولكن الدول الأوروبية، وبعد عقود على الترويج لمبدأ تقرير المصير كمبدأ للانفصال، حيث قامت بدعم انفصال واستقلال البوسنة والهرسك، بذلت جهوداً كبيراً لثني الكتالونيين عن الانفصال. ولكن القادة الأكراد يدركون أن السياسة الحقيقية، وليس المثل، ستقود إلى نجاح محاولة استقلالهم، كما يقول الخبير السياسي الأميركي مورغان كابلان الذي درس حركة الاستقلال الكردية. وقال كابلان إنه من وجهة النظر الكردية، فإن الاستفتاء «كان من المفروض أن يكون الخطوة الأولى في عملية المفاوضات مع بغداد»، وكانت الفكرة التي تمسك بها الاكراد مفادها أن التعامل بالمعايير الدولية، من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة والقوى الأجنبية الأخرى إلى دعم الاستقلال، وبالتالي يمكن أن تضغط على بغداد للموافقة على الانفصال. ولكن الاستفتاء أدى إلى حشد واشنطن مع بغداد في معارضة استقلال كردستان، الأمر الذي يظهر ما سمّته الخبيرتان الأميركيتان في العلوم السياسية، اريكا تشينويث وتانيشا فازل «ورطة الانفصاليين»، وأن القوانين غير المكتوبة للانفصال، غالباً ما تفشل في تحقيق الهدف أو ربما يكون مردودها عكسياً. استند بناء النظام العالمي المعاصر على فكرتين، اتضح أن ثمة تصارعاً بينهما، وهما، الأولى أن الحدود مقدسة بالنسبة لكل دولة لا يمكن تغييرها، والثانية أن الشعب يقرر الوضع السياسي الذي يريده في حياته. |
والقانون الأول، والأهم، هو أن يصور المرء قضيته باعتبارها كفاحاً من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان أولاً وقبل كل شيء، وأما تقرير مصير الأمة فإنه يأتي في المقام الثاني. وهذا يساعد في الالتفاف على حقيقة أنه ليس هناك حق شرعي، بموجب القانون الدولي أو المحلي، من أجل الانفصال عن أي دولة. ويجب أيضاً الحصول على دعم القوى العظمى او على الأقل الولايات المتحدة لإجبار، أو رشو الحكومة المطلوب الانفصال عنها. واذا لم يكن الانفصال متفقاً عليه، فإنه سيكون من المستحيل تقريباً حل المشكلة بصورة سلمية، وبناءً عليه فمن الأفضل التظاهر بأن الجميع يريدون الانفصال.
وبصورة مثالية، يفضل الحصول على الانفصال من حاكم غير منتخب وليس له أصدقاء. ويجب استئجار مجموعة ضغط لإقناع قادة العالم بأن محاولة الانفصال ستنطوي على مصلحة لهم، كما أنها ستؤدي الى نشر قيمهم في العالم، ويجب تقديم الموضوع باعتباره خياراً سهلاً تماماً. ويجب التأكد من أنه ليس هناك أحد من المواطنين من بقية سكان الدولة يريدون حدود بلادهم أن تظل كما هي دون تغيير، ولهذا فإن أي استفتاء يجري يجب استبعاد العديد من الأشخاص الذين سيتأثرون سلباً بالاستفتاء.
تحريف الحقائق
ويرى جميع أصحاب المبادئ أن عمليات تحريف الحقائق التي ترافق عادة قوانين الانفصال، هي في نهاية المطاف، تتعلق بما تريده القوى العظمى في العالم، كما قال خبير علم السياسة بردجيت كوغينز.
والكتالونيون، على سبيل المثال، بنوا حركتهم حول المثل التي يحملها أصحاب المبادئ، والتي من المفروض أن تقود حركة الانفصال. وعمدوا إلى تنظيم حركتهم دون اللجوء الى العنف، ودعوا الى تصويت مفتوح، وقدموا أنفسهم باعتبارهم يطالبون بحق معروف عالمياً، هو حق تقرير المصير. ويدعو كوغينز هذه الحركة بـ«حركة جميلة ومسالمة»، لكنها «تتناقض كلياً مع وجهة نظر العلاقات الدولية».
معارضة قوية
ولا يتمتع الكتالونيون بالكثير من الدعم الدولي ويواجهون معارضة قوية، تماماً كما يواجهه الأكراد في شمال العراق، حيث يقف الطرفان على نقيض مع الدول العظمى، إضافة الى التناقض مع سياسة الانفصال. وهما يأتيان في وقت غير مناسب، حيث تعمل أميركا على الانسحاب من قيادة العالم بصورة متسارعة، ولذلك فإنها غير مستعدة لحل هذه التناقضات أو على الأقل تجنّب الخوض فيها.
واستند بناء النظام العالمي المعاصر على فكرتين، اتضح أن ثمة تصارعاً بينهما، وهما، الأولى أن الحدود مقدسة بالنسبة لكل دولة لا يمكن تغييرها، والثانية أن الشعب يقرر الوضع السياسي الذي يريده في حياته. وكان المقصود من الفكرة الأولى، أي الحدود، وضع نهاية للحروب عن طريق منع غزو الدول، أو عدم تشجيع المتمردين على الانفصال عن بلادهم. وأما الفكرة الثانية فيقصد منها حماية المواطنين من الحكام الدكتاتوريين أو القوى المحتلة. ولكن عندما يقرر جزء من سكان البلد الانفصال عنه، تقع الفكرتان السابقتان في حالة تصادم.
وأدى ذلك إلى حدوث فراغ في النظام الدولي، عندما يتعلق الأمر بإعلان جزء من الدولة الاستقلال، إذ لا العرف ولا القانون يكون واضحاً حول كيفية السماح بذلك، أو متى يكون الأمر مسموحاً به. وكتب البروفيسور كريس بورجين أستاذ القانون في موقع اوبينيو جوريس المخصص لمنح الدراسات القانونية «كما هو مفهوم عادة، ليس هناك حق للانفصال عن الدولة بموجب القانون الدولي، إذ إن الانفصال ليس حقاً وليس بالضرورة أمراً غير شرعي».
ومن الناحية العملية، فإن سياسة الدول الكبرى تملأ هذا الفراغ، وتحدد متى يكون حق الدولة في حماية حدودها أقوى أو أضعف، من رغبة بعض الأطراف على الانفصال عنها.
ونجم استفتاء استقلال جنوب السودان عن اتفاق سلام تم الاتفاق عليه دولياً، والذي وضع نهاية الحرب الأهلية في السودان. وهذا يعني أنه كان يتسم بشرعية دولية، كما أن حكومة السودان وافقت على الانفصال.
ولكن إسبانيا لم توافق على انفصال كتالونيا، كما أن العراق لم يوافق على انفصال الكرد. ومن دون هذه الموافقة بات الوضع في الحالتين أكثر اضطراباً. وعندما أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن صربيا نالت دعم الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لكنها واجهت معارضة شرسة من قبل حكومتي الصرب والروس. واليوم، وعلى الرغم من اعتراف نحو 100 دولة بها لم يتم الاعتراف بالبوسنة والهرسك في الأمم المتحدة.
ونظراً لتصادم الفكرتين السابقتين المتعلقتين بالحدود والسيادة وحق تقرير المصير، دائماً تحاول الدول العظمى إيجاد تبريرات لمواقفها، فقد بررت روسيا احتلالها شبه جزيرة القرم بالقول إنها خدمت رغبة سكان القرم في إعادة انضمامهم إلى روسيا، من خلال اجراء استفتاء غير مقنع بالمطلق. وقامت الولايات المتحدة بالمراوغة، لتجنب السؤال الأكثر صعوبة والمتعلق فيما اذا كان سكان القرم في حقيقة الأمر قد رغبوا في أن يصبحوا جزءاً من روسيا أم لا، وذلك عن طريق رفض الاستفتاء برمته.
وبالمعنى القضائي، فإن روسيا على خطأ، حسبما يرى بورجينو والعديد من العلماء الآخرين. ولكن ضم موسكو للقرم، وكذلك دعمها لجميع الحركات الانفصالية في شتى أنحاء أوروبا، يتم عن طريق استغلال الفجوة بين كيفية عمل الانفصال بصورة رسمية، وكيف ينظر إليه أثناء عمله.