أسوأ من بعضها بعضاً
الخيارات الأميركية ظلت متخبطـة في سورية
دخلت الحرب الأهلية في سورية مرحلة جديدة، وأحكم النظام السوري قبضته على النصف الغربي من سورية إضافة إلى النصف الشرقي، بينما تقوم القوات المدعومة من الولايات المتحدة بالزحف نحو البقية الباقية من الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم «داعش».
• ارتكب مسلحو المعارضة العديد من الأخطاء الفادحة التي أدت إلى نجاح قوات الأسد، وكانت المنافسات الشديدة لقيادات المعارضة قد منعت قيام عمليات عسكرية موحدة. احترام تخفيف النزاع بصورة انتقائية كان احترام الحكومة السورية لمناطق تخفيف النزاع يأتي بصورة انتقائية، الأمر الذي أثبت أنه قدم فائدة عسكرية لها. ولم يكن الجيش السوري يحقق تقدماً جيداً في درعا. ومن دون الدعم الجوي الروسي المتواصل للقوات الأرضية السورية فإن استعادة النظام لمدينة إدلب سيكون أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً. وبناء عليه، وبحلول أغسطس الماضي، كانت القوات السورية تحترم إلى حد كبير وقف إطلاق النار حول درعا وادلب، في حين أنها كانت تقوم بنقل قواتها من الجنوب الغربي إلى الضواحي في شرق دمشق وإلى بلدات في شمال حمص. وساعدت هذه الاستراتيجية، في احترام وقف إطلاق النار في أماكن، وتجاهله في أماكن أخرى، الحكومة السورية على تحقيق انتصارات عسكرية لم تكن قادرة على تحقيقها من دونها. خيارات واشنطن السيئة في الوقت الذي تلوح للعيان نهاية الحملة ضد تنظيم «داعش»، يتعين على إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن تقرر الفترة التي ستحافظ فيها على وجود القوات الأميركية في شرق سورية. وثمة 1000 أو 2000 جندي أميركي، إضافة إلى بضع عشرات من الموظفين المدنيين، موجودون الآن في سورية. وبدأت المهمة الأميركية داخل سورية كدعم عسكري للقوات الكردية التي تحارب تنظيم «داعش»، لكنها توسعت لتشمل القيام بمهمة حفظ السلام بين القوات الحكومية والمسلحين العرب، وحتى الجنود الأتراك في مدينة منبج الواقعة في شمال سورية، والمساعدة على تنفيذ الأعمال الأولية لإعادة الأعمار في البلد. وتكمن الأولوية الأولى للولايات المتحدة في تجنب توسع المهمة الأميركية في سورية، وقبل أي شيء آخر الانتباه إلى عدم الانجرار نحو حملات عسكرية باهظة التكاليف. وبالطبع لن يكون هناك نقص في الأسباب المحتملة للتدخل في المنطقة. وعندما تنخرط القوات الحكومية السورية في حرب مع القوات الكردية، وهو أمر محتوم حول الحكم الذاتي الكردي في منطقة «روجافا»، أو إذا قررت الحكومة السورية مهاجمة «قوات سورية الديمقراطية» في دير الزور، فإن ذلك يمكن أن يشجع الولايات المتحدة على التدخل لمصلحة الحلفاء القدامى، وبالطبع فإن ذلك سيكون خطأ جسيماً، لأنه ليس هناك لاعب مهم في الحرب الدائرة في شرق سورية، إذ لا الأردن، ولا أكراد العراق، ولا الحكومة العراقية في بغداد، سيكونون قادرين على حماية الأكراد السوريين أو حتى «قوات سورية الديمقراطية» في دير الزور. وبالطبع فإن الأتراك سيشجعون الرئيس الأسد على ضرب الأكراد السوريين، وربما يعملون على إعاقة أي مساعدات سترسلها الولايات المتحدة عن طريق تركيا، وأما روسيا فإنها تشعر بالحساسية من تدخل الغرب ضد سورية، كما أنها أصلاً لا تملك الكثير الذي يمكن أن تقوم به، وأما إيران فإن مخاوفها من الأكراد الموجودين لديها ستدفعها إلى دعم الأسد، وإضافة إلى ذلك فليست هناك إرادة سياسية لدى الولايات المتحدة لشن حرب لمصلحة أكراد سورية، كما أن المقاتلين من القبائل العربية في سورية، الموجودين في دير الزور وشرق سورية، لم يكونوا يوماً مهمين بالنسبة للأمن القومي الأميركي. |
وحتى الآن لاتزال الحملتان العسكريتان في سورية منفصلتين تماماً، أي النظام والقوات المدعومة أميركياً. ولكن ذلك يتغير الآن إذ إن الرئيس السوري، بشار الأسد، بدعم من إيران وروسيا، بدأ يركز قوات أكبر نحو شرق سورية. وفي الوقت الذي تتقلص المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، تتوجه القوات المدعومة من النظام السوري والولايات المتحدة نحو هذه المدن.
وفي حقيقة الأمر فإن الولايات المتحدة لم تكن لديها خيارات جيدة في سورية، بل إن خياراتها في هذا البلد كانت أسوأ من بعضها بعضاً. وحتى الآن فإن آمال التخلص من الرئيس السوري أو تأمين حكومة إصلاحية، تعتبر خيالات بعيدة المنال، كما أن خيارات دعم القوات المناهضة للحكومة السورية يجب ألا تعود مطروحة على الطاولة.
تصميم
ومن الواضح أن الحكومة السورية مصممة على استعادة كل الأراضي السورية تحت نفوذها، ومن المؤكد أنها ستنجح في ذلك، وهذا يعني أن الولايات المتحدة سيتعين عليها التخلص من أي آمال لدعم المنطقة الكردية الانفصالية، أو حماية حقوق الإنسان والديمقراطية. وبالنظر للفساد المستشري في الحكومة السورية فإن الولايات المتحدة لن تقدم المساعدات لإعادة بناء سورية، لكن ثمة طريقة واحدة فقط تستطيع بها الولايات المتحدة القيام بأمر جيد، تتمثل في تخفيف المعاناة عن ملايين اللاجئين السوريين الموجودين خارج بلدهم. وعن طريق التركيز على المأزق الذي يعيشونه، تستطيع واشنطن تقديم المساعدة لأكثر السوريين فقراً وبؤساً، وتخفف العبء عن كاهل الدول التي تستضيفهم، وتحدّ من فرص المتطرفين لتجنيد اللاجئين في أعمالها.
نصر في الغرب
خلال الـ18 شهراً الماضية حققت الحكومة السورية نجاحات عسكرية غير مسبوقة في غرب سورية. وفي ديسمبر 2016 أجبرت مسلحي المعارضة وعائلاتهم على مغادرة مدينة حلب، ثانية أكبر المدن السورية، ومن ثم في شهر مايو الماضي استولت على المعقل الأخير للمعارضة في مدينة حمص. وتقدمت القوات الحكومية في هذه الفترة نحو معاقل كانت تحت سيطرة مسلحي المعارضة قرب دمشق، واستولت على داريا وبرزة والقابون.
وارتكب مسلحو المعارضة العديد من الأخطاء الفادحة التي أدت إلى نجاح قوات الأسد، وكانت المنافسات الشديدة لقيادات المعارضة قد منعت قيام عمليات عسكرية موحدة، وفشل القادة السياسيون للمعارضة في الوصول إلى العناصر التي تشكل قاعدة دعم الحكومة السورية، مثل مجتمعات الأقليات الدينية، والمصالح التجارية للطبقة المتوسطة، التي ربما كانت متعاطفة مع أهدافها فقط. وكانت المعارضة بطيئة في رفضها المنظمات المتطرفة العاملة ضمن مناطقها، وأهمها «جبهة النصرة»، ولم تعمد المجموعات المعارضة للنظام السوري إلى معاقبة المسلحين الذين ارتكبوا أعمالاً وحشية بصورة علنية. وسمحت كل هذه الأخطاء لنظام الأسد بحشد الدعم بين التجار وأصحاب المصالح، والأقليات الدينية، الذين كانوا يخشون أنهم سيعانون تحت حكم الإسلاميين.
واستفاد الرئيس بشار الأسد من مساعدات أجنبية، وقامت الحكومة الإيرانية بجمع عشرات الآلاف من المقاتلين الشيعة من أفغانستان وإيران والعراق ولبنان، وحتى من باكستان، للقتال في صفوف الحكومة السورية، وبدعم من روسيا تمكن هؤلاء من دعم قوات النظام السوري، لاستعادة المراكز السكانية الأساسية في سورية.
وفي الوقت ذاته الذي حصل فيه نظام الأسد على المساعدات الخارجية، كان الدعم الخارجي للمعارضة قد انتهى تقريباً. وفي عام 2016 توقف الدعمان التركي والأميركي للمعارضة السورية، فقد ركزت واشنطن على دعم قوات أكراد سورية التي كانت تقاتل في شرق سورية، في حين أن تركيا خشيت من قيام دولة كردية مستقلة على حدودها الجنوبية، فأوقفت حملتها ضد الأسد ودعمت المعارضين السوريين الذين يحاربون الأكراد. وفي يوليو من العام ذاته ألغى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، برنامجاً للمخابرات المركزية كان شبه متوقف أصلاً، كان الهدف منه تقديم المساعدة للمعارضة المعتدلة لمحاربة النظام السوري، التي أصبح معظمها تابعاً لـ«جبهة النصرة».
وقف إطلاق النار ليس الحل
بعد أن اتضح أن نتائج الحل العسكري شبه أكيدة، عمدت روسيا إلى الاستفادة من تدخلها لإقرار تسوية سياسية ملائمة لإيقاف القتال، تضع سورية تحت حكم الحكومة الحالية. وبعد سقوط حلب استدعت موسكو وفوداً من الحكومة السورية ومجموعات المعارضة المتعددة إلى اجتماع في مدينة أستانا العاصمة الكازاخية، إضافة إلى مسؤولين من تركيا وإيران، على أمل أن تقوم الدولتان بالضغط على حلفائهما من السوريين، من أجل إنهاء الأعمال القتالية على الأرض. وأعلنت روسيا وإيران وتركيا في مايو الماضي، إقامة أربع مناطق تخفيف نزاع تشمل بعض معاقل المعارضة في شرق سورية، مثل إدلب في الشمال الغربي، ومنطقة تتضمن بلدات عدة في شمال حمص، والضواحي الشرقية في دمشق، والمنطقة الجنوبية الغربية من سورية المحاذية للحدود الأردنية، بما فيها مدينة درعا، حيث بدأت الثورة السورية عام 2011.
وحتى الآن لم تحقق هذه الجهود الدبلوماسية النجاح الكامل المنشود، ويرجع ذلك إلى أن الحكومة السورية، والإيرانيين الداعمين لها، انتهكوا وقف إطلاق النار كلما رأوا أن ذلك لمصلحتهم. ومن ضمن مناطق تخفيف النزاع الأربع، المعلن عنها في مايو الماضي، كانت إدلب فقط هي التي انخفض فيها الصراع إلى حد كبير. وتتواصل هجمات الحكومة السورية البرية والجوية شمال حمص، وفي شرق دمشق، والجنوب الغربي. وفي يوليو الماضي، قامت روسيا، التي تعمل مع الولايات المتحدة والأردن، بإعلان اتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب الغربي السوري، لايزال نافذاً بصورة جيدة حتى الآن.
وبالطبع فإن دمشق لن تحترم وقف إطلاق النار في الأماكن الأخرى إلى الأبد. وقام المدنيون في جنوب سورية بتشكيل حكومات محلية لتامين الخدمات، وتشجيع الانتعاش الاقتصادي. وفي مناطق عدة بإدلب نظّم السكان انتخابات من أجل إدارتها. وبالنظر إلى أن الحكومة السورية دأبت على رفض جميع الكيانات السياسية الأخرى ضمن سورية، حيث اعتبرتها غير شرعية، ستبذل دمشق جهوداً جبارة للقضاء على هذه الكيانات. وخلال عامَي 2015 و2016 قامت الحكومة السورية بإلغاء الإدارات التي كانت موجودة في ضواحي دمشق، عندما تم عقد الصلح بين هذه المناطق والحكومة. وكان رفض الحكومة السورية قبول شرعية المجموعات السياسية الأخرى ضمن سورية قد أدى إلى وصول مفاوضات جنيف التي تشرف عليها الأمم المتحدة إلى طريق مسدود. ورفض وفد النظام السوري مناقشة أي إصلاح سياسي، وحتى فترة انتقالية، بعيداً عن الأسد. لكن وفد المعارضة الذي كان مدعوماً من السعودية وتركيا والغرب أصر على أنه يتعين على الأسد أن يتخلى عن السلطة جزءاً لا يتجزأ من أي اتفاق.
وخلال الأسابيع والشهور المقبلة، ستواصل قوات الحكومة السورية تقدمها ميلاً بعد ميل، عن طريق احترام وقف إطلاق النار حيناً وانتهاكه أحياناً، حسب ما تقتضي مصلحتها العسكرية. وفي مرحلة ما يمكن أن يوافق الأسد على تغيير سياسي رمزي حسب الطلب الإيراني أو الروسي. وربما يسمح بتغيير رئيس الحكومة أو تغيير وزير الزراعة أو الاقتصاد، لكنه لن يقبل بإجراء انتخابات شفافة أو نزيهة، أي أن جوهر الدولة البوليسية، سيظل كما هو.
سقوط «داعش»
في شرق سورية المنفصل عن سيطرة القوات الحكومية، تمكنت القوات المدعومة من الولايات المتحدة من تحقيق تقدم كبير ضد تنظيم «داعش». وبحلول شهر أغسطس الماضي، أي بعد ثلاث سنوات من قيام رئيس الولايات المتحدة السابق، باراك أوباما، بشن حملة ضد «داعش» في سورية، تمكن الائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة من طرد التنظيم الإرهابي من منطقة تبلغ نحو 60 كيلومتراً مربعاً كان قد استولى عليها سابقاً. وتحقق هذا التقدم بأثمان إنسانية ودبلوماسية باهظة، إذ نجم عن الضربات الجوية الأميركية مقتل المئات من المدنيين، كما أن دعم الولايات المتحدة للأكراد في سورية، أضر بعلاقات الولايات المتحدة مع تركيا. وفي يونيو الماضي، وعلى الرغم من معارضة أنقرة الكبيرة، بدأت إدارة ترامب تزويد وحدات حماية الشعب علناً بالأسلحة، وهي ميليشيات كردية تحارب «داعش» في سورية، على الرغم من علاقتها المباشرة مع حزب العمال الكردستاني المصنف منظمة إرهابية تعمل في شمال العراق. ولتخفيف المخاوف التركية قامت الولايات المتحدة بتجنيد مجموعة من المقاتلين العرب، لتشكيل حلف مع الأكراد يعرف بقوات سورية الديمقراطية، لكن «وحدات حماية الشعب الكردي» تشكل العمود الفقري في هذه المجموعة المسلحة.
وفي صيف عام 2017، بدأ «داعش» للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية، يواجه هجمات متواصلة من جيوش مدعومة من الولايات المتحدة وإيران وروسيا. وتمكنت «قوات سورية الديمقراطية» من استعادة الرقة عاصمة تنظيم «داعش»، وتقدمت نحو المعقل الأخير للتنظيم في جنوب شرق سورية، وهي مدينة دير الزور، التي زودت حقولها النفطية التنظيم الإرهابي بالمال. وفي سبتمبر الماضي توجهت القوات السورية الحكومية نحو مدينة دير الزور أيضاً. واتفقت الولايات المتحدة وروسيا على أن النهر سيفصل بين القوتين، حيث القوات الحكومية على الضفة الغربية للنهر، و«قوات سورية الديمقراطية» على الضفة الشرقية.
وعندما استولت قوات سورية الديمقراطية على الرقة، ووصلت قوات الحكومة السورية إلى مدينة بوكمال، آخر المدن السورية غرب نهر الفرات قبل الوصول إلى الحدود العراقية، لم يتبقّ أي مواقع لـ«داعش» يمكن استرداده. وستبحث قوات حكومة دمشق عن طريقة للاستيلاء على منابع النفط في دير الزور الواقعة شرق النهر، التي ستلعب دوراً حاسماً في تمويل إعادة إعمار سورية، التي ستبدأ بعد الانتهاء من الحرب الحالية. وترفض الحكومة السورية بشدة المجلس المدني المؤقت الذي أنشأته «قوات سورية الديمقراطية» لإدارة المناطق التي سيطرت عليها. وستندلع الخلافات القبلية الداخلية التي من المحتمل أن تؤدي إلى تفتت قوات سورية الديمقراطية، عشية انهيار تنظيم «داعش» برمته، الأمر الذي سيمنح القوات السورية الحكومية فرصة لنقل قواتها نحو شرق نهر الفرات، إضافة إلى أنها ستمنح الميليشيات السنية فرصة تجنيد المزيد من المسلحين في صفوفها.
لا لـ «روجافا»
ورفضت الحكومة السورية شرعية منطقة الحكم الذاتي الكردية المعروفة باسم «روجافا»، التي تم إنشاؤها في شمال شرق سورية. وفي أغسطس الماضي قال نائب وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، إن الحكومة لن تسمح لأي منطقة مهما كانت بتشكيل تهديد لما سماه «الوحدة الوطنية»، ووصف الانتخابات المحلية التي نظمها الأكراد في منطقة روجافا بأنها «نكتة»، ومن جهته كرر الرئيس السوري، بشار الأسد، أن حكومته ستهزم الانفصاليين وتقضي على المخططات الرامية إلى تقسيم سورية، لأهداف ليست لمصلحة الشعب السوري.
سفير أميركا السابق لدى دمشق روبرت فورد
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news