إثيوبيا ترفض التضحية بخططها التنموية من أجل «عيون الجيران»
الصراع على مياه النيل حتمي بعد بناء سد النهضة
يقف سد النهضة شامخاً مثل الهرم فوق النيل الأزرق، ويصل ارتفاع هذا السد الهائل إلى 145 متراً فوق الأراضي الإثيوبية، ويؤدي دَرَجه، الذي يبدو وكأنه بُني لعمالقة، إلى ذروة السد، الذي يربط بين قمتين جبليتين على بعد نحو كيلومترين من بعضهما بعضاً.
البحث عن مخرج بينما لاتزال إثيوبيا ومصر تبحثان عن مخرج من الأزمة السياسية، إلا أن الوقت ينفد، حيث يقترب السد يومياً من موعد الانتهاء من تشييده. • ليس هناك بلد في العالم يعتبر مصيره لصيقاً بنهر مثل مصر، التي وصفها المؤرخ اليوناني هيرودوت ذات يوم بأنها «هبة النيل»، حيث تحصل مصر على نحو 97% من مياهها من النهر. |
يبدو العمال الذين يرتدون خوذات حمراء، ويعملون أعلى السور الخرساني للسد، وكأنهم أشكال مصغرة، إنهم يبعثون الحياة في هذا البناء الرمادي، الذي يبدو وكأنه صورة من أحد أفلام الخيال العلمي.
تتدفق مياه النيل الأزرق عبر السد باتجاه الغرب، وعلى بعد نحو 40 كيلومتراً تقع الحدود مع الجارة السودان، التي لا تكاد ترى في ضباب الصباح. ثم يلتقي النيل الأزرق بالنيل الأبيض في الخرطوم، قبل أن يصب النهران مياههما، التي تعبر مصر عبر مجرى النيل، في البحر المتوسط.
تبدو الفيضانات العارمة للنيل الأزرق في موسم الجفاف الإثيوبي، وكأنها أليفة، ويتم في الوقت الحالي في منطقة شمال غرب إثيوبيا النائية بناء أكبر سد في إفريقيا.
يعتبر بناء «سد النهضة الإثيوبي العظيم» إنجازاً غير مسبوق بالنسبة لإثيوبيا، فهو أكبر مشروع في البنية التحتية أقامته إثيوبيا حتى الآن.
اكتمل بناء السد بنسبة 63% حتى الآن، ومن المنتظر أن ينتج عند اكتماله مستقبلاً ما يصل إلى 6450 ميغاواط من الكهرباء، حسب القائمين عليه. وينتظر لهذه الكهرباء أن تحفّز تنمية إثيوبيا.
ورغم أن إثيوبيا كانت، وفقاً للبنك الدولي، أسرع بلاد العالم نمواً اقتصادياً عام 2017، إلا أن الفقر والبطالة يسودان هذا البلد، صاحب ثاني أكبر كثافة سكانية في قارة إفريقيا.
تسعى حكومة إثيوبيا إلى الدفع بالبلاد إلى الأمام اقتصادياً، وجذب الصناعات، لكن ذلك يلزمه التيار الكهربائي. عن ذلك، قال المشرف على المشروع، سيمينغيو بيكله، والشعور بالفخر يبدو على وجهه: «سيسمح لنا السد بمحاربة خصمنا المشترك، الفقر».
وبالنسبة لبيكله ومعظم الإثيوبيين، فإن سد النهضة يعني أكثر من مجرد سد، حيث يعتبر رمزاً لاستقلال إثيوبيا وقوة إرادتها، هذا البلد الإفريقي الوحيد الذي لم يستعمر.
تقول الرواية الرسمية، إن إثيوبيا نفسها هي التي تمول تكاليف بناء السد، التي تبلغ مليارات عدة من الدولارات، إذ ناشدت الحكومة مواطنيها شراء سندات حكومية، وألزمت موظفي الدولة بالتبرع للسد بجزء من راتبهم.
مخاوف دول المصب
لكن انفراد إثيوبيا بقرار بناء السد يثير خوفاً كبيراً لدى دول المصب، فليس هناك بلد في العالم يعتبر مصيره لصيقاً بنهر مثل مصر، التي وصفها المؤرخ اليوناني هيرودوت ذات يوم بأنها «هبة النيل»، حيث تحصل مصر على نحو 97% من مياهها من النهر، حسبما أوضحت رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ميشيل دن، التي تدعم صناع القرار الأميركي، خصوصاً في ما يتعلق بالدراسات الاقتصادية والزراعية.
ويأتي معظم هذه المياه من الهضاب الأثيوبية، إذ تضبط مصر منسوب المياه منذ مطلع القرن الـ20، من خلال خزان أسوان ثم السد العالي في أسوان. وحرصت الحكومة المصرية، من خلال بحيرة ناصر خلف السد العالي، على حماية البلاد من التعرض لفترات جفاف أو فيضانات، لكن ومع تزايد السكان، وسوء إدارة المياه، فإن مصر تتجه «في كل الأحوال نحو أزمة مائية خلال السنوات الخمس المقبلة»، حسبما أوضحت دن.
لذلك فإن هناك خوفاً كبيراً من أن تغلق أديس أبابا صنبور المياه عن القاهرة. وأكد الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، أخيراً أن «قضية الماء قضية حياة أو موت»، مضيفاً: «لن نسمح لأحد بالمساس بمياه مصر».
وتتراكم التوترات منذ سنوات بين إثيوبيا ومصر، حيث يغلب الشك المتبادل والتصريحات الحادة بين الطرفين على الحوار بينهما.
ويعتبر مخزون المياه خلف سد النهضة، الذي يقدر بنحو 74 مليار متر مكعب، أكبر نقاط الخلاف بين مصر وإثيوبيا، وهذه قضية شائكة للغاية، وذلك لأنه كلما تم ملء بحيرة السد بسرعة قلت المياه المتدفقة إلى السودان ومصر.
ومن الصعب جداً التوصل لاتفاق بهذا الشأن بين الجانبين، وذلك لأنه من غير الواضح ما هي كمية المياه التي ستتدفق كل عام إلى مصر عبر النيل، حسبما أوضح المهندس والبروفيسور في معهد ماساشوسيتس للتقنية (MIT) كينيث ستريزبيك، إذ أكد أن مشكلة التغير المناخي تزيد الطين بلة.
وأضاف: «إذا حاولت مصر وإثيوبيا التوصل لاتفاق واضح بشأن كمية المياه التي ستخزنها إثيوبيا خلف السد سنوياً، وكمية المياه التي ستسمح بها إثيوبيا، فسيظل هناك خطر على الطرفين أيضاً».
تهرب
يتهرب قائد مشروع سد النهضة، المهندس بيكله، دائماً من الرد على السؤال بشأن ملء خزان السد، مؤكداً أنه لن يتم الدفع بتنمية البلاد على حساب الآخرين.
كما وعد وزير المياه الإثيوبي، سيلشي بيكليه، أخيراً، بأن «عملية ملء الخزان ستتم عبر فترة زمنية طويلة، دون الإضرار بالتدفق الطبيعي للمياه»، ولكن يبدو أن هذه التطمينات لا ترضي مصر كثيراً. حتى وإن تم تجاوز هذه العقبة، فلايزال هناك إمكانية لوقوع نزاع آخر، حيث تضمن اتفاقية وقعت عام 1959 لمصر 55.5 مليار متر مكعب، وللسودان 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، ولم تراع هذه الاتفاقية إثيوبيا ودولاً أخرى في حوض النيل.
غير أن السودان يمكن أن يحصل من خلال ضبط المياه بواسطة سد النهضة، حسب ستريزبيك، على المزيد من المياه بشكل يجعله لا يحصد مرة واحدة سنوياً بل مرتين. وأدرك السودان منذ زمن طويل المميزات التي ينطوي عليها بناء سد النهضة الإثيوبي له، وأعلن دعمه للسد. ولكن مصر أيضاً تستطيع في النهاية الاستفادة من السد، وذلك حسب المهندس كيفين ويلر، من معهد التغير البيئي بجامعة أوكسفورد. ويجري ويلر أبحاثاً عن هذا السد. ولأن بحيرة السد الإثيوبي أعلى، كما أنه يقع في مناخ أكثر برودة، فإن معدل التبخر هناك سيكون أقل منه في بحيرة ناصر المصرية، حسب ويلر.
تعاون
كما يعني وجود مخزون مياه إضافي مزيداً من الأمن المائي لمصر في سنوات الجفاف، حسبما يرى ويلر، شريطة أن يتعاون البلدان مع بعضهما بشكل وثيق، وهذه هي النقطة المفصلية.
عن ذلك يقول ويلر: «لا أعرف موقفاً آخر يتم فيه تشغيل سدين بهذا الحجم على النهر نفسه، دون خطة للتنسيق بين السدين».
ورأى ستريزبيك أن القضية كلها بحاجة للتعاون والثقة «ولا يتوافر من الثقة سوى القليل».
وترى دن أن من الممكن أن تتدخل مؤسسات دولية لإيجاد حل مقبول للطرفين.
كما لم تستبعد دن إمكانية أن تتوصل القاهرة وأديس أبابا لحل فيما بينهما دون تدخل دولي، لكنها لم تستبعد أيضاً حدوث استفزاز عسكري مصري، مضيفة: «ليست هناك أزمة أمنية وشيكة، لكنها ممكنة».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news