الشراكسة.. تعايشوا مع الفلســطينيين واختلفوا مع إسرائيل
شهد عام 1870 بدايات وجود القبائل الشركسية في فلسطين قادمة من جبال القوقاز جنوب روسيا، وذلك خلال عهد الامبراطورية العثمانية، عندما وفدت مجموعات منهم إلى مارويل الواقعة على الحدود اليونانية البلغارية، بغرض الاستفادة من قدراتهم الحربية في المعارك التي كانوا يخوضونها في أوروبا الشرقية والبلقان، لكن الهزائم المتوالية التي لحقت بالعثمانيين أمام الروس وحلفائهم الأوروبيين، أجبرتهم على ترحيل الشركس، ونقلهم من أوروبا الشرقية إلى شبه جزيرة الأناضول، وبلدان المشرق العربي، ومنها فلسطين.
وتتمركز القبائل الشركسية منذ قدومها قبل 150 عاماً في قريتي الريحانية، وكفر كما، في جبال الجليل الأخضر، في الجليل الأعلى، شمال فلسطين، فالعائلات الشركسية في كفر كما، الواقعة إلى الشرق من بحيرة طبريا، وسكانها من قبيلة «شابسوغ»، وبلدة الريحانية، بالقرب من الحدود السورية، وأفرادها من قبيلة «إبزاخ»، وتتفرع من القبيلتين 46 عائلة يبلغ عددهم 4500 نسمة، وقد اعتنقوا الدين الإسلامي، وهم من أتباع الطائفة السنية.
وعلى الرغم من إقامة الشراكسة في القرى العربية في الداخل المحتل، إلا أن مناطق إقامتهم لا تشبه تلك القرى، فمنازلهم تمتاز بتلاصقها، فيما أحاطوا مجتمعاتهم لفترة طويلة بعزلة عن المحيطين بهم، قبل الانخراط حديثاً في المجتمع الفلسطيني، وذلك للمحافظة على عاداتهم وتقاليدهم التي اختصوا بها عن غيرهم من الأقليات والمجتمعات الموجودة.
ومن أجل ضمان وجودهم خدمت فئة منهم في الجيش الإسرائيلي ضمن التجنيد الإجباري، كونهم يحملون الهوية الزرقاء الإسرائيلية، التي فرضت عليهم مقابل وجودهم، وعلى الرغم من ذلك فإنهم عانوا من إسرائيل، وتعرضوا للطرد والتهجير، ما جعلهم يرفضون الخدمة العسكرية.
اختلاط تدريجي
• حماية العرق تكلف الشراكسة جهداً كبيراً للحفاظ على أهم عادة خاصة بهم، والتي تبدو غريبة على المجتمعات العربية، وهي «زواج الخطف»، إذ تخطف العائلات والقبائل الشركسية النساء الشركسيات عندما يريد أحد الشباب الزواج بفتاة تعجبه. • غالبية قبائل الشركس ترفض الخدمة في صفوف جيش دولته تصادر القرى والأراضي التي يسكنون فيها، وتهدم البيوت بها. |
شوقي خان البالغ من العمر 64 عاماً، يقيم داخل منزله في قرية الريحانية متحفاً يعكس تفاصيل وحكايات العادات الشركسية المتجذرة فيهم، ويجسد رقصة أحفاد النسور الشركسية وزيهم الشعبي القوقازي.
يقول شوقي خان أحد مخاتير الشراكسة، «إن الشركس في فلسطين هم أقلية ظلمتهم الحروب في البلقان، وفرقهم التاريخ، ولكن علمنا الأخضر مازال يجمعنا، ومازلنا نتمسك بعاداتنا وطائفتنا التي نفتخر بها، ولكن بفعل الحروب أتينا إلى فلسطين، وقد استقبلنا العرب ورحبوا بنا، وأقمنا في قراهم دون أن يعارضوا ذلك، بل قدموا لنا كل ما نحتاج إليه».
ويضيف: «كان هناك صعوبات عدة واجهتنا عند قدومنا، وذلك لأننا لم نفهم لغة العرب، وهم أيضاً لم يفهموا اللغة الشركسية، ولكن بعد أن تعلمنا العربية في المدارس الابتدائية المشتركة فيما تعلموا هم لغتنا المشهورة باللغة الإيديغية، ضمن المناهج المقررة في الدراسة، تفاهمنا مع الجيران وأصحبت العلاقات أفضل بكثير، حيث نتكلم حالياً اللغة العربية، لاختلاطنا مع العرب حديثاً، بالإضافة إلى التحدث باللغة العبرية بفعل وجودنا ضمن مجتمع تسيطر عليه إسرائيل، وكل معاملاتنا الرسمية تابعة للحكومة الإسرائيلية».
علاقة متينة
ويشير خان إلى أن قرية الريحانية تجسد متانة العلاقة الاجتماعية مع الفلسطينيين، فسكانها مزيج بين الشركس والعرب السكان الأصليين للقرية، لافتاً إلى أنهم يعيشون في تناغم فريد، فأبناء الطرفين يتعلمون في مدرسة واحدة، ويتقاسمون الدراسة والمنهاج المقرر.
محمد شابسوغ، أحد أفراد قبيلة شابسوغ، التي تمثل أغلبية سكان كفر كما من الشركس، ويعمل محامياً ومستشاراً قانونياً، يؤكد على قوة العلاقات التي تربطه بالفلسطينيين في الداخل المحتل وكذلك الأردن، كونه يتنقل ما بين المنطقتين للعمل، حيث توجد قبائل شركسية في الأردن.
ويقول شابسوغ لـ«الإمارات اليوم»: «مع مرور الزمن بدأت عائلات من الشراكسة تختلط بالفلسطينيين وتمتد إلى داخل قراهم، ونسجت علاقات اجتماعية معهم، فهناك من يسكن في قرى الداخل المحتل، مثل مدينة الناصرة شمال فلسطين، وكذلك في مدن الضفة الغربية».
ويضيف: «أنا ولدت في الريحانية وعشت طفولتي مع الشركس، ودرسنا مع بعضنا بعضاً في مدرسة واحدة، وقد تعلمنا نحن العرب لغتهم، وتعلموا هما لغتنا، كما تبادلنا ثقافاتنا، ونسجنا علاقات اجتماعية جيدة في ما بيننا، وهذا مهد الطريق أمام انتقال عدد من عائلة قبيلة شابسوغ للعيش في مدينة نابلس وطولكرم في الضفة الغربية، بفعل فرص العمل المتاحة لدى المؤسسات الفلسطينية، وتخالط النسب، وإقامة علاقات الصداقة، بفعل الاختلاط والتقارب بين الفلسطينيين، فقد جاوروهم واحتضنوهم، مجسدين أجمل صور التجانس».
التجنيد الإجباري
في خمسينات القرن الماضي نجحت إسرائيل في ضم أقلية من الشراكسة إلى جيشها، في الفترة نفسها التي فرضت فيها الخدمة الإجبارية على الدروز العرب، لكن الغالبية من قبائل الشركس يرفضون ذلك.
يوضح مدير متحف التراث الشركسي في قرية كفر كما زهير تحاوخو، أن خدمة أقلية قليلة من الشركس في الجيش الإسرائيلي كانت تلقي بظلالها على العلاقات بينهم وبين الفلسطينيين.
ويؤكد تحاوخو خلال حديثه لـ«الإمارات اليوم»، أن «غالبية قبائل الشركس ترفض الخدمة في صفوف جيش دولته تصادر القرى والأراضي التي يسكنون بها، ويهدم البيوت فيها، مشيراً إلى ان الشركس مثل الفلسطينيين تعرضوا لعلميات الطرد ومصادرة الأراضي، ففي عام 1953 طردت السلطات الإسرائيلية سبع عائلات شركسية من قرية الريحانية، وفي عام 1957 غادرت أسر عدة إلى تركيا هرباً من تعسف الاحتلال، فيما تقلصت مساحة قرية كفر كما الشركسية من نحو 8500 دونم إلى نحو 6500 دونم، وأراضي قرية الريحانية تقلصت من 6000 دونم إلى 1600 دونم بفعل المصادرة».
ويقول مدير المتحف الشركسي في كفر كما، «نرفض أن نخدم في جيش يحارب الفلسطينيين الذين تربطنا بهم علاقات قوية، مسلمين ومسيحيين، اذ تربطنا بهم علاقات جيدة، فهم أول من آوانا، ويحترمون شعائرنا الدينية، ونبادلهم الزيارات في الأعياد الإسلامية والمسيحية».
ويضيف: «أنا وعائلتي نختار المسار الذي نسير عليه أثناء وجودنا في القرى العربية، والذي يمثل نمط سلوكنا وتعاملنا مع الفلسطينيين، وذلك حتى لا أخسر علاقتي معهم، فلا أحارب مع جيش إسرائيل، وأبقى فقط أحافظ على عاداتي وعرقي مهما كان الثمن».
عادات خاصة
حماية العرق تكلف الشراكسة جهداً كبيراً للحفاظ على أهم عادة خاصة بهم، والتي تبدو غريبة عن المجتمعات العربية، وهي «زواج الخطف»، إذ تخطف العائلات والقبائل الشركسية النساء الشركسيات عندما يريد أحد الشباب الزواج بفتاة تعجبه.
سارة شوغان شركسية من كفر كما، تزوجت بطريقة الخطف، وتقيم حالياً في مدينة الناصرة القريبة من قريتها الأصلية، حيث تقول: «إن عادة الخطف هي ليست بسبب علاقة غير شرعية أو علاقة ممنوعة، لكن هذه العادة هي فقط لتمكين الشاب والفتاة من اختيار من يحبون والزواج بهم، لذلك تخطف الفتاة من قبل القبيلة التي يريد ابنها الزواج بها».
وتضيف: «زوجي كان يريد الزواج بي، والتزاماً بالعادة الخاصة في مراسم الزواج عندنا أخبر مختار قبيلته بأنه يريد الزواج بي، فأرسلوا رجالاً منهم وخطفوني، ومن ثم أبلغوا مختار عائلتي بأنني لديهم ويرغبون في طلب يدي لابنهم، وتمت الموافقة بعد معرفة رأيي ومشاورتي، وتزوجنا وأنجبنا طفلين».