عباس يعتذر للإسرائيليين عن إيذاء مشاعرهم على الرغم من جرائمهم
من الصعوبة بمكان تخيل سيناريو أكثر تضليلاً وغرابة وجنوناً مما حدث أخيراً، حيث اضطر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلى الاعتذار للشعب اليهودي. ويبدو ذلك كمن تعرض للسرقة ويعتذر للصوص، إنها الضحية تعتذر للمغتصب، والقتيل يعتذر للقاتل.
وفي واقع الأمر، فإن المحتلين يتميزون بالحساسية المفرطة، كما أن مشاعرهم، وهذه المشاعر بالتحديد، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار فقط، فإسرائيل لم تتوقف حتى الآن عن الاحتلال، والتدمير والقتل، ولم تفكر يوماً بالاعتذار عن أي شيء مطلقاً، لا، بل إنها أجبرت الضحايا الفلسطينيين على الاعتذار عن جملة تافهة قالها زعيمهم. والبقية معروفة للجميع، إذ إن هذا الاعتذار «مرفوض»، فماذا تظنون هل سيتم «قبوله»؟
والمرء ليس بحاجة لأن يكون من المعجبين بمحمود عباس كي يفهم مدى عمق هذه الخطوة العبثية. وليس بحاجة لأن يكون من الكارهين لإسرائيل كي يفهم مدى هذه الوقاحة.
وتمتلك إسرائيل بطاقة سحرية، وهي يانصيب القرن، التي تتمثل في الرعب الناجم عن تهمة معاداة السامية. ويبدو أن قيمة هذه في ارتفاع مذهل، خصوصاً الآن، في الوقت الذي تتراجع فيه قضية المحرقة، في حين يتم استبدال تهمة معاداة السامية في العديد من الدول، بانتقاد إسرائيل. وبالطبع، فإن لعب هذه البطاقة الجالبة للحظ يغطي كل شيء. وبالطبع، فإن حامليها لا يستطيعون القيام بكل شيء كما يشاؤون فحسب، وإنما إهانتهم أيضاً، والضغط عليهم.
ولقد غضب العالم برمته على عباس، كما لم يفعل ذلك على أي من أفعال إسرائيل الاستفزازية، ومن هؤلاء جوقة المطبلين في الاتحاد الأوروبي، ومبعوثو الأمم المتحدة، وسفير المستوطنين دافيد فريدمان، الذي لا يدين إسرائيل مهما فعلت من أعمال مشينة، وإنما يركز على إدانة الفلسطينيين فقط. وحتى صحيفة نيويورك تايمز الرصينة، فقد اتخذت لهجة صارمة على نحو مدهش، حين قالت «دعونا نجعل كلمات عباس الشريرة والمشينة هي آخر ما يقوله كقائد فلسطيني».
• إسرائيل لم تعتذر مطلقاً عن ارتكابها النكبة، ولا عن التطهير العرقي، ولا عن تدمير مئات القرى، وإبعاد مئات الآلاف من الأشخاص عن أراضيهم ووطنهم. |
ومن الصعب تصديق أن هذه الصحيفة التي لطالما وصفها اليمين الإسرائيلي بأنها كارهة لإسرائيل، بلا سبب معقول طبعاً، يمكن أن تستخدم لغة مشابهة ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية، ذلك الشخص المسؤول عن مذبحة المحتجين المدنيين العزّل، على سبيل المثال.
وثمة معايير مزدوجة أيضاً في إسرائيل، إذ إنها لا تهاجم اليمين المعادي للسامية في أوروبا وهو يهاجم عباس، الذي يعتبر أقل معادة للسامية بكثير من نائب مستشار النمسا هاينز كريستيان شتراشي، أو رئيس حكومة هنغاريا فكتور أوربان.
وقال عباس شيئاً ما كان ينبغي أن يقوله، ولكنه اعتذر في اليوم التالي. لقد أعرب الرجل عن أسفه، وتراجع عما قاله، ودان المحرقة النازية ومعاداة السامية، وكرر تأكيد التزامه بحل الدولتين، ولم يبق إلا أن يطلبوا منه أن يركع أمام «بساطير» الجيش الإسرائيلي، ويطلب الصفح والغفران من أجل مواصلة العيش تحت سلطة هذه البساطير. ولكن إسرائيل لن تدع أي اعتذار يوقف شماتتها الشنيعة. وسارع وزير خارجيتها إفيغدور ليبرمان بوضع الطرف الآخر في موقع الإدانة، كما هي العادة، حيث قال «اعتذار شخص ينكر المحرقة غير مقبول بالنسبة لنا».
ولكن عباس أقل إنكاراً بكثير، هذا إذا كان منكراً، من إنكار إسرائيل لنكبة الفلسطينيين. ولكن إنكار النكبة مسموح به، بل في واقع الأمر هو أمر واجب في إسرائيل.
وسواء كانت هناك معاداة للسامية أم لا، فإن الوضع الذي يعيشه جميع اليهود في العالم أفضل وأكثر أمناً اليوم من الوضع الذي يعيشه الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية، أو حتى من يطلق عليهم عرب إسرائيل. ولا يمكن أن تجد في هذه الأيام يهوداً لا يتمتعون بأي حقوق، كما هي حال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن اليهود يعانون التمييز ضدهم، كما يتعرض له العرب في إسرائيل. وعندما يتعرض يهودي للطعن بسكين في فرنسا، فإن رئيس الجمهورية يأتي لزيارته. ولكن عندما يتعرض عربي في إسرائيل للطعن بسكين، فإن رئيس حكومتها يواصل التحريض ضده. وعندما يقوم بمثل هذا التحريض لا يعتذر عنه مطلقاً.
لم تعتذر إسرائيل مطلقاً عن ارتكابها النكبة، ولا عن التطهير العرقي، ولا عن تدمير مئات القرى، وإبعاد مئات الآلاف من الأشخاص عن أراضيهم ووطنهم. ولم تعتذر عن جرائم الاحتلال في عام 1967، أو عن سرقة الأراضي وبناء المستوطنات، أو عن الاعتقال بلا تهمة، أو القتل الجماعي، أو تدمير حياة دولة كاملة.
ولا ينوي أي سياسي إسرائيلي واحد اليوم الاعتذار كخطوة ضرورية نحو تحقيق مستقبل مختلف. ولكن عباس يجب أن يعتذر، وإن ليبرمان و«نيويورك تايمز» ستطالبان برأسه، وفي حقيقة الأمر، فإنهما يطالبان برأسه حتى بعد الاعتذار.
جدعون ليفي - صحافي إسرائيلي، يكتب مقالات تركز غالباً على الاحتلال للأراضي الفلسطينية.