أوروبا تسعى إلى حماية مصالحها الاقتصادية مع إيران
يبدو أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي سيفرض تداعيات اقتصادية قوية على العلاقات بين إيران والاتحاد الأوروبي، على نحو دفع الأخير إلى التحرك من أجل حماية مصالحه الاقتصادية مع الأولى، دون أن تتوافر له خيارات عدة في هذا السياق، في ظل اتساع مساحة الخلافات بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وتزايد مخاوف الشركات الأوروبية من مواصلة أعمالها داخل إيران خلال المرحلة المقبلة، بشكل يشير إلى أن الجهود التي تبذل في الوقت الحالي من أجل مواصلة العمل بالاتفاق، تواجه تحديات عدة لا تبدو هينة.
وفق ترجيحات مختلفة، ستؤدي العقوبات الأميركية إلى تقلص إمدادات النفط الإيرانية للأسواق الدولية، بأكثر من نصف مليون برميل يومياً، فضلاً عن تهديد أعمال الشركات الأجنبية داخل إيران، فيما قد تعرقل أيضاً الصفقات التجارية التي أبرمتها إيران مع الشركات الأجنبية في وقت سابق من العامين الماضيين، ومن بينها صفقات شراء طائرات مدنية من شركتي «بوينغ» الأميركية و«إيرباص» الأوروبية. |
قيود أميركية
تتجه الولايات المتحدة الأميركية، فيما يبدو، نحو تصعيد حدة ضغوطها الاقتصادية على إيران، وذلك بعد خطوتها الأخيرة بالانسحاب من الاتفاق النووي، التي تأتي في إطار تزايد شكوك الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيال جدوى الاتفاق في منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، أو تطوير برنامج الصواريخ البالستية، أو وقف أعمالها المعادية والمهدّدة لاستقرار منطقة الشرق الأوسط.
وفي غضون الأشهر الستة المقبلة، ستفرض الإدارة الأميركية سلسلة من العقوبات التدريجية على إيران تشمل كل الأنشطة الاقتصادية، بما سيؤدي، على الأرجح، إلى حدوث شلل اقتصادي واسع. ويعتبر قطاعا النفط والشحن البحري من أبرز مجالات العقوبات المحتملة، بالتوازي مع حزمة من العقوبات الأخرى على المعاملات المالية المقومة بالدولار الأميركي من قبل المؤسسات المالية الأجنبية مع إيران.
ووفق ترجيحات مختلفة، ستؤدي العقوبات الأميركية إلى تقلص إمدادات النفط الإيرانية للأسواق الدولية، بأكثر من نصف مليون برميل يومياً، فضلاً عن تهديد أعمال الشركات الأجنبية داخل إيران، فيما قد تعرقل أيضاً الصفقات التجارية التي أبرمتها إيران مع الشركات الأجنبية في وقت سابق من العامين الماضيين، ومن بينها صفقات شراء طائرات مدنية من شركتي «بوينغ» الأميركية و«إيرباص» الأوروبية، خصوصاً بعد قرار وزارة الخزانة الأميركية سحب تراخيص التصدير من الشركتين قريباً.
وقد حذر مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، في 13 مايو الجاري، الشركات الأوروبية من إمكانية فرض عقوبات عليها، حال مواصلة معاملاتها مع إيران. وفي خطوة سريعة لإثبات جدية العقوبات، سارعت الإدارة الأميركية، في 15 مايو الجاري، نحو فرض عقوبات جديدة على محافظ البنك المركزي الإيراني ولي الله سيف وبنك «البلاد» الإسلامي ومقره العراق، بالإضافة إلى مجموعة من الأشخاص الإيرانيين ذوي الصلة بالحرس الثوري وحزب الله اللبناني، على نحو سيقيد، نسبياً، من المعاملات الراهنة للبنوك الأجنبية مع النظام المصرفي الإيراني.
تعقيدات أوروبية
في الواقع، لايزال من المبكر حسم تداعيات الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي على صادرات النفط الإيرانية للأسواق الدولية، أو أعمال الشركات الأجنبية المتعاملة مع إيران، حيث إنه بخلاف الولايات المتحدة الأميركية، أبدى الشركاء الآخرون، على غرار الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، التزاماً شديداً تجاه الاتفاق النووي، بشكل قد يقوض من فعالية العقوبات الأميركية، بحسب اتجاهات عدة.
وفي الوقت نفسه، أشارت الدول الأوروبية إلى أنها ستسعى لحماية مصالحها التجارية والاستثمارية مع إيران، وهو ما عبرت عنه مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني، في 15 مايو، بقولها إن الاتحاد سيوصل جهوده لحماية التجارة والاستثمار مع إيران، على الرغم من أنه لن يستطيع تقديم ضمانات قانونية واقتصادية كافية للأخيرة.
لكن هذا الموقف الأوروبي لم يكن كافياً لطمأنة الشركات الأوروبية لمواصلة أعمالها مع إيران، على نحو قد يدفعها إلى مراجعة أعمالها داخل إيران، سواء على صعيد المعاملات التجارية أو الاستثمارية. وفي هذا الصدد، أعلنت شركات مثل «إم.إس.سي» السويسرية عن مراجعة عملياتها مع إيران، في الوقت الذي توقفت فيه شركة «ميرسك لاين» الدنماركية عن قبول شحنات النفط من السوق الإيرانية، وبالمثل أيضاً أرجأت شركة «تورم» الدنماركية لناقلات المنتجات النفطية تلقي الطلبيات الجديدة في إيران.
فيما أبدت شركات أخرى مثل «سارس» الإيطالية مخاوفها من تأثير الانسحاب الأميركي ليس في عدم توافر إمدادات نفطية من إيران، ولكن في ارتفاع محتمل لأسعار النفط في الأسواق الدولية، رغم وجود خامات بديلة من منطقة الشرق الأوسط وغرب إفريقيا.
في ظل هذا المناخ، يبدو أن الصفقات التي أبرمتها إيران مع الشركات الأوروبية في العامين الماضيين، باتت محط متابعة من جانب الإدارة الأميركية، وهو ما قد يدفع هذه الشركات إلى التخلي عن أنشطتها التجارية والاستثمارية في السوق الإيرانية في الفترة المقبلة، ما لم تحصل على الإعفاءات من السلطات الأميركية كأحد الحلول الممكنة لاستمرار أعمالها هناك.
وتمثل صفقة تطوير المرحلة الـ11 من حقل بارس الجنوبي، التي أبرمت بين شركة «توتال» الفرنسية، وشركاء آخرين بقيمة خمسة مليارات دولار إحدى أهم تلك الصفقات، ولدى الشركة أيضاً معاملات تجارية لتوريد النفط الإيراني للأسواق الأوروبية. وربما لن يختلف موقف شركة «إيرباص» الأوروبية عن نظيرتها الفرنسية، فعلى الأرجح ستضطر إلى تجميد صفقتها مع إيران، لتوريد طائرات مدنية، في ظل قرار وزارة الخزانة الأميركية سحب تصريح التصدير للسوق الإيرانية، وذلك رغم مساعي إيران لاستكمال الصفقة قبل المهلة التي حددتها واشنطن، لتطبيق العقوبات بشكل كامل في نوفمبر المقبل.
مساران رئيسان:
يبدو أن الاتحاد الأوروبي سيتحرك نحو حماية مصالحه التجارية والاستثمارية مع إيران من خلال محورين رئيسين: يتمثل أولهما، في التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية بشأن العقوبات المفروضة على إيران، حيث سيحاول، على الأرجح، إقناع الأخيرة باستثناء بعض الشركات الأوروبية من تلك العقوبات، لكي تستطيع مواصلة أنشطتها التجارية والاستثمارية مع إيران، وهو ما تمت مناقشته فعلاً خلال لقاء وزير الاقتصاد والشؤون المالية الفرنسي برونو لو مار نظيره الأميركي ستيفن منوتشين في 11 مايو الجاري.
وبالتوازي مع ذلك، قد يتجه الاتحاد الأوروبي نحو محاولة إقناع واشنطن بإعادة إبرام اتفاق أوسع نطاقاً مع إيران، يشمل فرض رقابة أكثر صرامة على برنامجها النووي، وتحجيم برنامجها للصواريخ البالستية، وتقييد تدخلاتها في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما كان يطالب به الرئيس الأميركي قبل الانسحاب من الاتفاق، وبما يسمح للشركات الأوروبية في نهاية المطاف بممارسة الأعمال بحرّية داخل إيران.
وينصرف ثانيهما، إلى تبني سياسة تصعيدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية، وذلك من خلال مواصلة الأنشطة الاقتصادية مع إيران، دون الامتثال للعقوبات الأميركية، أو الاعتراف بأي أحكام قضائية أميركية قد تصدر ضد الشركات الأوروبية نفسها، بالتزامن مع إقامة خطوط ائتمان حكومية باليورو، للتحايل على قيود تمويل الدولار، حيث قد يكون بنك الاستثمار الأوروبي أحد المصادر المحتملة للتمويل وفق ترجيحات عدة.
وربما يكون التقاضي أمام منظمة التجارة العالمية إحدى الآليات الأخرى المتاحة أمام الاتحاد الأوروبي، لحماية مصالحه الاقتصادية في إيران، على نحو ما أشار إليه المتحدث باسم الحكومة الفرنسية بنجامين جريفو، في التاسع من مايو، حيث قال إن الاتحاد الأوروبي مستعد للطعن أمام منظمة التجارة العالمية على أي إجراءات أحادية تضر مصالح الشركات الأوروبية، والرد على نحو ملائم وفقاً لقواعد تلك المنظمة الدولية.
لكن في واقع الأمر، لن تسهم الآليات السابقة، رغم تعددها، في حماية المصالح الأوروبية داخل إيران، نظراً لمخاوف الشركات الأوروبية نفسها من الحرمان من العمل بالسوق الأميركية، حال مواصلة أعمالها في إيران، وهو ما سيدفعها، في الغالب، للامتثال للعقوبات الأميركية، فضلاً عن أن آلية شكاوى منظمة التجارة العالمية تستغرق وقتاً طويلاً للبت فيها، بالتزامن مع ضعف دور المنظمة كما تبين أخيراً.
ولاشك في أن اتجاه الاتحاد الأوروبي إلى تبني المسار الثاني قد يفرض تبعات خطرة، تتمثل في تصاعد حدة التوتر السياسي مع واشنطن، والذي يتزامن مع التهديد الأميركي أخيراً، بتقييد التجارة الأوروبية في الأسواق الأميركية، وهي كلها عوامل تضعف من جدوى أي تدابير محتملة من جانب الاتحاد، بشكل لن يكون أمامه سوى محاولة إقناع إدارة الرئيس دونالد ترامب للحصول على بعض الإعفاءات والاستثناءات، بهدف الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إيران.