أطراف النزاع في سورية تفرقهم المعارك وتجمعهم الملايين
وقود وأسطوانات غاز، سكر وفواكه، قطع سيارات وغيرها.. عينة من بضائع تنتقل عبر خطوط التماس بين أطراف النزاع في سورية، الذين تفرقهم ساحات الحرب وتجمع بينهم الحركة التجارية عبر معابر داخلية تدر عليهم الملايين.
في سورية ــ كما في كل نزاع ــ نشأت فئة تعرف بـ«تجار الحرب»، هم أشخاص يستغلون الحرب والحصار وفقر الكثيرين، ليراكموا ثروات طائلة، وينشط هؤلاء عبر المعابر التي تربط المناطق المتخاصمة.
ومن أبرز المعابر التي تتم عبرها هذه العمليات، معبر مورك بين محافظة إدلب (شمال غرب) الواقعة بمعظمها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل أخرى، ومحافظة حماة (وسط) الواقعة بمعظمها تحت سيطرة قوات النظام.
ويقول مسؤول المعبر الذي افتتح في نوفمبر 2017، أبوالهدى الصوراني: «يُعد مورك أقوى المعابر بين الفصائل والنظام من ناحية حركة التجارة»، مضيفاً في حديث لوكالة «فرانس برس» عبر الإنترنت: «إنه معبر رسمي معترف به منّا ومن النظام، ورؤوس الأموال هي التي تحرك الأمور عليه».
وأوضح خلال مقابلة مع «فرانس برس» عند المعبر، أنه «جرى افتتاحه بوساطة تجار لهم علاقات مع النظام». وأشار إلى أن المعبر من جهة النظام «مُحتكر من شخص واحد»، لم يذكر اسمه، إلا أن مصادر عدة، بينها مسؤول في أحد الفصائل وآخر مطلع على حركة معبر مورك، قالت إن هذا الشخص يُطلق عليه اسم «غوار».
وفضل أشخاص عدة تحدثت معهم «فرانس برس» عدم الكشف عن أسمائهم.
وتحدث المصدر المطلع على حركة التبادل التجاري في مورك عن عملية معقدة يقودها «غوار»، الذي يُعد «واجهة لتجار كبار ولمسؤولين أمنيين» من جهة النظام.
ويدفع «غوار»، وفق المصدر، بموجب عقد، ما يوازي مليون دولار حداً أدنى لقوات النظام للحصول على حق حصري باستخدام المعبر للتجارة لأشهر عدة، وخلال هذه المدة «تنحصر به كل عمليات التبادل التجاري» على المعبر.
ويترتب على «غوار» تحديد الرسوم التي يأخذها كل حاجز للنظام، أثناء مرور شاحنات البضائع عبرها.
ويقول أبوالهدى: «هذه سياسة النظام، يبيع الطريق لتاجر معين ويعمل هذا الأخير على هواه».
وبحسب المصدر المواكب لعمل المعبر، تدخل إلى مناطق قوات النظام بشكل أساسي منتجات محلية مثل الخضار والكمون والكزبرة والفستق واللوز، وأخرى تركية مثل الألبسة والبسكويت.
وتمنع الفصائل إخراج بضائع معينة مثل أنثى المواشي للحفاظ على الثروة الحيوانية في إدلب.
أما إلى إدلب، فتدخل بشكل أساسي المحروقات وأسطوانات الغاز والسكر، بالإضافة الى بضائع متنوعة من قطع السيارات إلى الفواكه الساحلية.
أمراء الحرب
في الجهة المقابلة، تأخذ هيئة تحرير الشام حصتها من الضرائب على البضائع المنقولة.
وتحتكر هيئة تحرير الشام تجارة السكر القادم من مناطق النظام، وفق المصدر الذي يقول: «يُمنع على أي أحد تجارة السكر من غير المحسوبين على الهيئة بسبب مردوده الكبير»، كونه مادة لا يستغنى عنها.
وفي الثامن من يوليو تظاهر أصحاب مقالع الحجارة قرب المعبر احتجاجاً على زيادة الرسوم التي تفرضها الهيئة على شاحنات نقل الحجارة من إدلب إلى مناطق النظام من 400 دولار إلى 1500 دولار للشاحنة الواحدة، ما أجبرها على مراجعة قرارها وتخفيض الضريبة.
ويقول مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في دمشق بسام أبوعبدالله: «في سورية كما في كل الحروب، تنشأ شبكة مصالح بين الأطراف المتنازعة بسبب المنفعة الاقتصادية».
وعبر المعابر التي «حولتها الحرب إلى أمر واقع» في سورية، وفق قوله: «نشأت طبقة من المتمولين سواء من هذا الطرف أو ذاك، أو ما يمكن أن نسميه (أمراء الحرب)».
ويوضح الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أيمن الدسوقي، ومقره إسطنبول، أن «تجارة المعابر تعود بمنفعة مشتركة على فرقاء الصراع ممن تحالفوا مع رجال أعمال استغلوا الوضع القائم، ليزيدوا من نشاطهم التجاري»، مضيفاً: «من الطبيعي أن تدر الملايين على القوى المسيطرة عليها، والتجار الذين يتعاملون عبرها».
وتشكل المعابر ــ بحسب الدسوقي ــ مصدراً مالياً بالنسبة إلى الفصائل المعارضة «خصوصاً مع تراجع الدعم الخارجي لها»، كما للنظام «نتيجة الأرباح التي تحصل عليها قواته والميليشيات الموالية له ليضمن بالنتيجة ولاءها، إضافة إلى استفادة شخصيات تجارية كبيرة مقربة من النظام من عقود الاتاوات».
ممنوعات تركية
على بعد نحو 30 كيلومتراً من معبر مورك، ثمة معبر آخر حاولت حركة أحرار الشام توسيع العمل التجاري عبره للاستفادة من مردوده، لكن هيئة تحرير الشام كانت لها بالمرصاد، خصوصاً بعد الاقتتال الداخلي الذي شهدته إدلب بين الطرفين في العامين 2017 و2018 وانتهى بتوسيع الأخيرة نطاق سيطرتها.
ويقع المعبر في ريف حماة الشمالي المؤدي إلى محافظة إدلب، ويُعرف بأنه الطريق الذي مرت عبره قوافل مقاتلين ومدنيين تم إجلاؤهم من مناطق عدة الى الشمال السوري، وتقتصر العملية التجارية عند قلعة المضيق على بضائع تنقلها سيارات صغيرة.
ويقول مسؤول أمني في فصيل بالمنطقة: «تمنع الهيئة وصول الشاحنات الكبيرة إلى المعبر، ليبقى مورك الأول تجارياً».
وفي الشمال، يُعد معبر الحمران في ريف حلب الشمالي الشرقي الأبرز في المنطقة، ويقع في منبج بين مناطق تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية وأبرز مكوناتها المقاتلون الأكراد، وأخرى تابعة لفصائل «درع الفرات» المدعومة من أنقرة.
ويسيطر فصيل الجبهة الشامية على المعبر من جهة «درع الفرات»، لكن الكلمة الفصل لأنقرة.
ويقول مسؤول في الفصيل المعارض على المعبر لـ«فرانس برس»: «أكثر ما يأتي من منطقة الأكراد هو الوقود الخام الذي يجري تكريره في منطقتنا»، إذ يدخل يومياً بين 50 و60 صهريجاً، فيما تدخل بضائع تركية على أنواعها إلى مناطق الأكراد.
ويحتفظ الفصيل بلائحة من تركيا بمواد يمنع إدخالها الى مناطق الأكراد من بينها الاسمنت، والحديد، والسماد، فالأخير يتضمن ــ وفق المسؤول ــ «مواد كيمائية ويمكن استخدامه في صناعة متفجرات». أما الأسمنت والحديد فلأنهما «يستخدمان في بناء المكعبات الاسمنتية الكبيرة التي توضع كعوائق وللحماية خلال المعارك».
بيل غيتس الغوطة
ولم تشذ الغوطة الشرقية قرب دمشق عن ممارسة الحرب هذه، رغم حصار محكم طوال خمس سنوات تسبب في حالات سوء تغذية حادة ووفيات، قبل أن تسيطر عليها قوات النظام في أبريل إثر هجوم أودى بحياة نحو 1700 مدني.
لكن بعيداً عن الحصار المعلن، كانت حركة تجارية تتمّ عبر معبر الوافدين شمال دوما، أبرز مدن الغوطة، الذي أطلق عليه سكان المنطقة في حينه تسمية «معبر المليون».
وكان فصيل جيش الإسلام، الأكثر نفوذاً في المنطقة حينذاك، يسيطر على المعبر من جهة المعارضة.
وعبر هذا المعبر، كانت أكياس من الأرز والطحين والسكر وحتى الثياب، تجد طريقها إلى الغوطة لكن بأسعار تفوق القدرة الشرائية للنسبة الكبرى من السكان، ما يفاقم معاناتهم، وفق ما أفاد مسؤولون في الفصائل ومقاتلون وتجار في المنطقة.
في المقابل، كان دخول سلع محددة على رأسها المواد الطبية والأدوية ممنوعاً.
ولمع اسم تاجر في الغوطة الشرقية بسبب احتكاره لهذه التجارة: محيي الدين المنفوش، صاحب معمل للألبان والأجبان في بلدة مسرابا، الذي ذكره الباحث آرون لوند في مارس الماضي عبر مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» جاء فيه أن «الجيش السوري سلّم في عام 2014 رجل الأعمال من مسرابا محيي الدين منفوش الاحتكار غير الرسمي للتجارة مع المعقل المحاصر».
وأضاف الباحث في مركز «سنتشوري فاونديشن» الأميركي، والذي كتب تقارير عدة عن الغوطة، أن المنفوش، «عبر عمله مع قياديي الفصائل والنظام في آن، برز كشخصية محورية في اقتصاد المنطقة السياسي».
ويقول رئيس المكتب السياسي لجيش الإسلام، ياسر دلوان: «سمح النظام بإدخال السلع عبر المنفوش، كان هو التاجر المعتمد من جانبه، ولم يكن لدينا خيار سوى التعامل معه». وكان المنفوش، بموجب عقد مع قوات النظام، يدفع لها «اتاوات» تبلغ 2000 ليرة سورية مقابل كل كيلوغرام من المواد الغذائية مثلاً، كما تحصل الفصائل على «أتاوات» مماثلة وإن بقيمة أقلّ.
ويوضح تاجر من الغوطة تعامل مع المنفوش أن الأخير «كان يشارك الجهتين، أي النظام والفصائل، ويحتكر تجارة بعض السلع»، خصوصاً الغذائية منها.
ويقول أبوهيثم (55 عاماً)، وهو مقاتل سابق من الغوطة الشرقية، «إنه بيل غيتس الغوطة»، في إشارة إلى ثرائه، مضيفاً: «كبرت ثروته بسبب الحصار، وعلى حساب جوع العالم».
• من أبرز المعابر التي يتم عبرها نقل البضائع، معبر مورك بين محافظة إدلب (شمال غرب) الواقعة بمعظمها تحت سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل أخرى، ومحافظة حماة (وسط) الواقعة بمعظمها تحت سيطرة قوات النظام.
• يُعد معبر الحمران في ريف حلب الشمالي الشرقي الأبرز في المنطقة، ويقع في منبج بين مناطق تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية، وأبرز مكوناتها المقاتلون الأكراد، وأخرى تابعة لفصائل «درع الفرات» المدعومة من أنقرة.