1.25 مليون شخص على حافة الموت جوعاً في جنوب السودان
على الرغم من توقيع الأطراف المتحاربة في جنوب السودان اتفاق سلام في العاصمة السودانية الخرطوم هذا الشهر، وهو الاتفاق الثاني، يقترب أكثر من 1.25 مليون شخص في جنوب السودان من حافة الموت جوعاً، وفقاً لآخر تحليل أجراه المكتب الوطني للإحصاء التابع للأمم المتحدة في جنوب السودان.
ويعاني هذا البلد أزمة إنسانية كارثية نتيجة أكثر من أربع سنوات من الحرب الأهلية الوحشية، حيث يواجه نصف السكان نقصاً مريعاً في الغذاء. وتأزّم الوضع بعد النزاع على السلطة، الذي اندلع في عام 2013 بين الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه، في ذلك الوقت، ريك مشار، ليدخل جنوب السودان نزاعاً مسلحاً انتشر في معظم أنحاء البلاد، وأدى إلى مقتل عشرات الآلاف من السكان. واضطر أكثر من أربعة ملايين شخص، أي ثلث تعداد سكان البلاد، الى الفرار من ديارهم بسبب الحرب الأهلية الوحشية، وفر ما يقرب من 2.5 مليون إلى البلدان المجاورة. ويوجد الآن مليون لاجئ من جنوب السودان في أوغندا، يشكلون نحو نصف مجموع اللاجئين هناك. ومعظم اللاجئين هم من النساء والأطفال، في أكبر أزمة للاجئين في إفريقيا.
انهيار اقتصادي
ودفع الصراع البلاد إلى انهيار اقتصادي مع ارتفاع أسعار الغذاء والوقود بشكل صاروخي، وبالتالي ارتفعت تكاليف المعيشة، وتعطلت التجارة والأسواق المحلية، وتم استنزاف المخزون الغذائي. ومع اضطرار الناس الى ترك منازلهم، فإنهم يفقدون ممتلكاتهم ومحاصيلهم ودخلهم، وغالباً ما تتقطع بهم السبل في أماكن لا توجد فيها مرافق كافية لدعم عشرات الآلاف من النازحين الجدد. ويواجه ما يقرب من نصف سكان وسط ولاية «الاستوائية»، والبالغ عددهم 390 ألف شخص، خطر المجاعة، ومن المتوقع أن يتفاقم الوضع بشكل أشد في الأشهر المقبلة. ويقول عدد من سكان مدينتي يي وليايا إنهم يعيشون في سجن، وينحون باللائمة على الحكومة لسرقتها طعامهم وحرمانهم من الوصول إلى حقولهم.
سلة الغذاء خالية من الطعام
على الرغم من أن منطقة «الاستوائية» لم تصل إلى مستوى المجاعة حتى الآن، إلا أن منظمات الإغاثة تقول إن الوضع مزعج للغاية. ويقول خبير التغذية بجمعية الصحة في جنوب السودان، جون أوكوبوي، وهي إحدى المجموعات المحلية القليلة العاملة في مدينة لينيا: «إنه أسوأ وضع إنساني رأيته في حياتي». وشاهد أوكوبوي ثلاثة أطفال يموتون أمامه في الأشهر الأخيرة بسبب سوء التغذية، كان أصغرهم في شهره الرابع.
وفي بداية الحرب الأهلية، كانت ولاية «الاستوائية» هادئة إلى حد كبير، واستمر الأمر كذلك إلى أن تجددت الاشتباكات في العاصمة جوبا في يوليو 2016، ليمتد القتال إلى المنطقة الجنوبية، ما أدى إلى فرار مليون شخص إثر نشوب أكثر أزمة لاجئين تفاقماً في العالم، وفقاً للأمم المتحدة. اليوم، أصبحت هذه الولاية، التي كانت صاخبة ذات يوم، منطقة أشباح. يقول أوكوبوي: «الناس خائفون من زراعة حقولهم»، ويمضي قائلاً: «إذا زرعوا وحصدوا محصولهم سيصادره جنود الحكومة، ويبررون ذلك بأن المزارعين ينتمون للمتمردين، وسيواجهون المشكلات». ويقول كبير مستشاري الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية، دوناتيلا روفيرا، إن الولاية تعيش في حالة مأساوية، ففي غضون عام، أصبح ما كان يطلق عليه سلة غذاء الجنوب مكاناً يتضور فيه الناس جوعاً من دون أي سبب آخر سوى الانقسام السياسي بين جهتين تستخدمان الطعام سلاحاً في الحرب.
الفلاحون مهددون بالقتل
ويقول الأهالي إن الجيش الحكومي يعتقل بشكل عشوائي ويقتل كل من يجده على بعد ثلاثة إلى أربعة أميال خارج المدينة، تحت مبرّر أنهم ينتمون إلى المتمردين. في أكتوبر العام الماضي، ذكرت غريس كاكو، التي تعيش في بلدة لينيا، أن شقيقتها تعرضت للضرب والاغتصاب في الحقول عندما غادرت المدينة لزراعة حقلها. وينفي الجيش هذه المزاعم، واصفاً إياها بـ«الدعاية السلبية». ولهذا السبب لم تقم ريجينا مودو، البالغة من العمر 65 عاماً، بفلاحة حقلها لأكثر من عام، وتعتمد بدلاً من ذلك على المساعدات الغذائية. تقول: «رأيت الناس يذهبون إلى حقولهم ولا يعودون منها أبداً».
الحرق حتى الموت
كثير من العائدين إلى مدينة نيال، التي تسيطر عليها المعارضة، يروون قصصاً تقشعر لها الأبدان، حيث يتعرض الناس للموت حرقاً داخل منازلهم على أيدي الجنود الحكوميين، كما يتعرضون لعمليات إطلاق نار عشوائي واغتصاب، ونهب للماشية على نطاق واسع، والتي تعتبر المصدر الرئيس لثروة القرويين.
روايات شهود عيان، التي جمعتها صحيفة «الأوبزرفر»، تعضد التقارير الصادرة أخيراً من الأمم المتحدة والوكالات الدولية الأخرى التي ترسم صورة وحشية للانتهاكات الأخيرة في جنوب السودان. ووفقاً لوكالات الإغاثة، فرّ آلاف المواطنين، ولجأ عدد منهم إلى جزر داخل مستنقعات تفتقر إلى الغذاء والمرافق الطبية. وعانى الكثير منهم الأمراض بسبب أكلهم الأعشاب النيلية.
وهرب الكثير من النازحين في هذا المكان من ثونيور، وهي قرية بالقرب من بلدة اللير، وهي أحد المواقع التي تعرضت لأول هجوم لجنود الحكومة. ويقول أحد النازحين، واسمه بيتر كول، يبلغ من العمر 60 عاماً: «جاء الجنود في عدد من العربات المدرعة»، وأضاف قائلاً: «قصفوا المنطقة وأخذوا النساء»، واصفاً كيف هرب القرويون إلى واحدة من جزر كبيرة عدة في المستنقعات التي ظل يستخدمها القرويون تقليدياً كملاذ آمن في أوقات النزاع. لكن الجنود، كما يقول القرويون، تبعوهم في عدد من الزوارق الصغيرة، وقصفوا المستنقعات وقتلوا عدداً من الذين كانوا يبحثون عن الأمان في هذا المكان.
قصة كول نفسها كرّر روايتها شهود عيان آخرون من ثونيور والقرى الأخرى المجاورة. كلهم تحدثوا عن اعتداء قبل الفجر بثلاث سيارات مصفحة. ويدل مستوى العنف على أن الحكومة تتبع سياسة الأرض المحروقة، حيث يتم القضاء على مخازن الأغذية والمرافق الطبية. ووصف لام بوك، الذي كان يقطن في قرية مجاورة، كيف تعرّض أشخاص للحرق أحياءً في منازلهم، حيث يقول: «كان هناك العديد من الأشخاص الذين قُتلوا في المكان الذي كنت أسكن فيه». وذكر اسمَي شخصين من الذين حُرقوا أحياءً: بول بالا (90 عاماً)، ودوب نغونو (72 عاماً).
ويتّسم الصراع في جنوب السودان بالتعقيد، حيث يدور القتال حول بلدتي اللير ومايينديت بين فصائل حركة تحرير شعب السودان بقيادة سلفاكير، والتي هيمنت على الجنوب منذ استقلاله عن السودان عام 2011، وبين فصيل مشار. ومنذ ذلك الحين، فشلت ثلاث جولات من مفاوضات السلام، كانت من ضمنها محادثات جرت في مايو الماضي وجهاً لوجه بين سلفاكير ومشار في إثيوبيا لإنهاء الصراع الذي تميز بشكل متزايد بالعنف المتنامي بين الجماعات العرقية.
وتكشف التقارير، التي تسربت من الهيئة المكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار في البلاد، انتهاكات خطرة مشابهة لتلك التي جمعتها «الأوبزيرفر»، ومنها «فتاة صغيرة يتم اغتصابها جماعياً ثم خنقها، وإحراق أطفال حتى الموت عندما أغلق الجنود الحكوميون عليهم باب كوخهم وأشعلوا فيه النار».
مستنقع عنف
ولأنها تفتقر إلى أي أساس أيديولوجي، إلى حد كبير، فإن صراعات جنوب السودان تحولت إلى مستنقع عنف بين النخب المتنافسة على السلطة ضد بعضها بعضاً. وعلى الرغم من ثلاث جولات من محادثات السلام، والتهديد بفرض عقوبات جديدة من مجلس الأمن الدولي، ومع تفاقم الوضع الإنساني، لا يبدو أن هناك حلاً دائماً في الأفق.
ويرى المحلل السياسي بجامعة جوبا، جيمس أوكوك، أن هناك قوة أساسية تغذي العنف، مستدلاً بأن التاريخ الطويل للحرب خلق ما يسمى بـ«سيكولوجية القوة العسكرية»، ويمضي قائلاً: «إنه موقف القادة الذين يخذلون الناس، هم غير مستعدين لبناء دولة أو أمة، لأنهم اعتادوا على البقاء في السلطة والتمتع بامتيازات الوجود في الحكومة، ولا يمكنهم أن يتصوروا بأنهم سيعيشون حياة جيدة خارج هذا النطاق، فإما أن يكونوا داخل الحكومة أو فليفنى جنوب السودان».
ويضيف: «ولهذا السبب فقد أقحموا أنفسهم في هذا القتال غير الضروري، لأن جميعهم يريدون أن يكونوا في الحكومة، وأن يكونوا في السلطة ليعيشوا بالتالي حياة هنيئة». وبسبب أعمال العنف، كانت النتيجة الأكثر مباشرة هي استمرار حالة الأزمة الإنسانية التي لا نهاية لها، والتي تفاقمت بفعل انعدام الأمن، حيث شهدت البلاد ثلاث عمليات اختطاف لعمال الإغاثة في الأشهر الأخيرة، وصعوبة استخدام الطرق البرية لنقل إمدادات المساعدات لستة أشهر في العام.
و«في نهاية المطاف»، كما يقول نائب رئيس منظمة أوكسفام، نيكولو دي مارزو، خلال زيارة له إلى نيال، «يبدو، على الرغم من اتفاق السلام، أن العنف لن يتوقف على الأرض في وقت قريب، على الرغم من أن المدنيين، الذين هم الضحايا الأبرياء للأطراف المتحاربة، يعانون انعدام الأمن الغذائي، ويبدو كأن هناك رغبة من جميع الأطراف المتحاربة في تعريض مزيد من أرواح الناس للخطر».
أحد أولئك الذين فروا في وقت مبكر من جولة القتال الحالية في ولاية الوحدة هي إليزابيث نيالوني، وهي أم لثلاثة أطفال. هربت إلى نيال قبل شهرين، قبل وقوع أسوأ الفظائع، وتبيع الآن القهوة والشاي في كشك في بلدة نيال، بعد أن اقترضت المال من صاحب متجر محلي لتأسيس أعمالها. قُتل ثلاثة من أقاربها في القتال الأخير، لكن نيالوني تشعر بالأمان في نيال، على الأقل في الوقت الراهن. وعندما سئلت عما ستقوله للمجتمع الدولي، انفجرت باكية: «أقول لهم إن القتال قد أودى بحياة كثيرين، إذا استمر الأمر على هذا المنوال فسيفقد المزيد من الناس أرواحهم».
يبدو، على الرغم من اتفاق السلام، أن العنف لن يتوقف على الأرض في وقت قريب، على الرغم من أن المدنيين، الذين هم الضحايا الأبرياءللأطراف المتحاربة، يعانون انعدام الأمن الغذائي، ويبدو كأن هناك رغبة من جميع الأطراف المتحاربة في تعريض مزيد من أرواح الناس للخطر.