عقيدة «أميركا أولاً» تبدو كفك ارتباط بين واشنطن والعالم
بوتين يعزز التأثير الروسي في الجمهوريات السوفيتية السابقة ويتحدّى النفوذ الغربي
منذ مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، تزعزعت الارتباطات الخارجية مع انسحاب واشنطن من سلسلة من الالتزامات الدبلوماسية، وبدت عقيدة «أميركا أولاً»، في كثير من الأحيان، كأنها فك الارتباط بالعالم. ولكن هناك روسيا، التي عرضت هذا الأسبوع علامتها التجارية الخاصة في ما يتعلق بالمسائل العالمية، فقد أعلنت حركة طالبان أنها ستحضر المحادثات في موسكو، فيما رفضت الحكومتان الأميركية والأفغانية المشاركة. وقالت روسيا إنها ستعمل مع إيران لمحاربة «الشر» في سورية. وفي هذه الأثناء، قالت «مايكروسوفت» إن المتسللين (عبر الإنترنت) المرتبطين بالاستخبارات العسكرية الروسية استهدفوا محافظين أميركيين ينتقدون ترامب، ويدعون إلى موقف متشدد حيال موسكو.
لقد أخذت عودة روسيا إلى المشهد الدولي، وهي الأولى من نوعها منذ تفكك الاتحاد السوفييتي في تسعينات القرن الماضي، بعض الوقت. خلال العقد الأول من هذا القرن، قطعت موسكو إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا، التي كانت في ذلك الوقت موالية للغرب. وفي عام 2008، دخلت قواتها العسكرية إلى جورجيا، الجمهورية السوفيتية السابقة. ولم تكن هناك استجابة عقابية من قبل الغرب. وبعد ست سنوات جاء غزو شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، فكان رد الفعل الغربي هذه المرة أقوى: مجموعة من عقوبات هي الأشد من نوعها ضد موسكو. إلا أنها لم تفعل سوى القليل لتغيير سلوك هذا البلد في العالم.
في السنوات التي تلت ذلك، تقول وكالات الاستخبارات الغربية إن روسيا حاولت التدخل في الانتخابات في العديد من الدول الأوروبية، وكذلك في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016. كما دخلت روسيا بشكل حاسم الصراع في سورية عام 2015، إلى جانب الرئيس بشار الأسد واقتربت من إسرائيل، حتى مع تحالفها مع إيران في سورية، وباعت صواريخ لتركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وأعادت إدراج نفسها في الدبلوماسية مع كوريا الشمالية؛ واستأنفت العمل في أفغانستان، البلد الذي انسحبت منه القوات السوفيتية بشكل خفي في عام 1989. والرسالة التي دفع بها الرئيس فلاديمير بوتين هي: روسيا عادت.
يقول المتخصص في علم الاجتماع بمركز «ليفادا»، وهو وكالة استطلاع روسية مستقلة، دينيس فولكوف، إن معظم الروس يرون أن السياسة الخارجية «جزء ناجح من سياسة بوتين، لأنها جعلت روسيا عظيمة مرة أخرى، للمرة الأولى منذ زمن الاتحاد السوفيتي». ويوضح: «إنهم يرون أن تدخل روسيا يساعد دولاً أخرى. على سبيل المثال، في أوكرانيا ساعدنا السكان الناطقين بالروسية. وفي سورية، يُنظر إلى الأمر على أنه مساعدة يقدمها الروس للنظام الشرعي ضد الإرهابيين».
وما يجعل انبعاث روسيا على نحو خاص لافتاً للنظر هو أن الغرب تجاهل، إلى حد كبير، موسكو في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. لقد كان اقتصاد هذا البلد في حالة يرثى لها، وتراجعت مستويات المعيشة، وبدأ الحنين لأيام حكم الحزب الشيوعي. عمل بوتين ببطء لعكس هذا الاتجاه، وتحويل الأمور لمصلحته.
تأكيد النفوذ
تقول الخبيرة في شؤون روسيا بـ«معهد بروكينغز» في واشنطن، ألينا بولياكوفا، إن هناك نقاشاً واسع النطاق حول سياسة بوتين الخارجية، وإن هناك من يقول إن بوتين انتهازي وتكتيكي. وتضيف: «إنه يرى فراغ السلطة، على سبيل المثال في سورية، حيث لم تكن لدى الولايات المتحدة استراتيجية، ويرى فرصة لإعادة تأكيد النفوذ الروسي والقوة الروسية في المنطقة»، وتتابع «يمكن القول إن الشيء نفسه ينطبق على الحالة في أوكرانيا. كانت هناك فرصة وخاطر(بوتين) وأثمرت».
على الجانب الآخر، تشرح الخبيرة أن هناك من ينظر إلى سياسة روسيا الخارجية كجزء من استراتيجية بوتين. يعزز بوتين التأثير الروسي في الجمهوريات السوفيتية السابقة وأوروبا الشرقية، بينما يتحدى النفوذ الأميركي والغربي في أجزاء أخرى من العالم.
وتضيف بولياكوفا «عموماً، حدد بوتين إرثه في هذه المرحلة، حيث إن الزعيم الروسي أعاد روسيا إلى الواجهة، بعد أن كانت جاثمة على ركبتيها في التسعينات»، وتابعت «إذاً، أصبحت روسيا الآن قوة عظمى، دولة يمكنها إعادة تأكيد نفوذها العالمي، بل وحتى تحدي النفوذ الأميركي في أجزاء مختلفة من العالم».
يأتي كل ذلك في وقت تنسحب فيه الولايات المتحدة من مواقعها التقليدية المهيمنة في العالم. وأدت محاولة واشنطن للحد من مشاركتها في سورية خلال حكم الرئيس السابق باراك أوباما إلى منح بوتين فرصة لتعزيز مصالح روسيا في المنطقة. نجاحه في الدفاع عن حليفه الأسد، الذي بدا في بعض الأحيان على وشك السقوط قبل التدخل الروسي، وغزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم جزء من النمط نفسه الذي تطور الآن لممارسة النفوذ في أفغانستان، حتى إن الولايات المتحدة اتهمت روسيا بدعم «طالبان».
دوافع بسيطة
دوافع روسيا بسيطة. إنها تنظر إلى الفضاء السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية كجزء من مجال نفوذها. وانفتاح الغرب تجاه هذه الدول، بالإضافة إلى «الجزرة» لبعضها، لإغرائها بعضوية حلف «الناتو»، يغضب موسكو، التي، على الرغم من الأدلة التاريخية التي تشير إلى العكس، تقول إن الولايات المتحدة وحلفاءها قطعوا وعداً في حقبة التسعينات بعدم توسيع الحلف. وتظهر رؤية روسيا للشرق الأوسط وأفغانستان وأماكن أخرى في أنها ترى نفسها جزءاً لا غنى عنه من أي حل دبلوماسي للصراعات المستمرة والمتنوعة، في وقت ليست فيه أميركا كذلك. ولا يبدو أن روسيا مهتمة بكيف ينظر لها العالم في محاولاتها الأخرى لممارسة النفوذ. إن جرأة تدخلها المزعوم في العديد من الانتخابات الغربية قد تجاوزها دورها المزعوم في محاولة اغتيال جاسوس روسي سابق وابنته في المملكة المتحدة. وتنفي روسيا كلاً من التدخل في الانتخابات الأميركية ومحاولة الاغتيال، ويعتقد الروس على نطاق واسع أن هذه التأكيدات صحيحة.
وحظي بوتين بتأييد الكثير من الروس، وأعرب عن امتنانه لبلاده، التي تضررت من المتاعب الاقتصادية في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، لتصبح قوة عظمى مرة أخرى. ولكن هذا قد يتغير، فقد وجد استطلاع حديث للرأي أجرته مؤسسة الاستطلاعات الروسية «ليفادا» أن معدلات تأييد بوتين تراجعت إلى حد كبير، حيث وصل التأييد إلى مستوى قياسي بنسبة 67% في يوليو الماضي، وهو رقم يمكن لأي زعيم غربي ينتخب ديمقراطياً أن يسعد به. لكن هذا الرقم أقل بكثير من نسبة تأييده البالغة 79% في مايو و82% في أبريل. وتعتبر الاستطلاعات التي أجرتها «ليفادا» من بين الأفضل في بلد يصعب فيه قياس الرأي العام. كما أن الثقة ببوتين تراجعت بشكل مماثل خلال هذه الفترة، كما ارتفع عدد الروس الذين قالوا إنهم يرون إن بلادهم تسير في الاتجاه الخطأ من 26٪ في أبريل إلى 40٪ في يوليو.
ويقول دينيس فولكوف: «نرى أن الناس يشعرون بالتعب قليلاً من مساعدة روسيا للآخرين، لأن الاقتصاد الروسي ليس جيداً للغاية، خصوصاً بعد الإعلان عن إصلاح نظام المعاشات، برفع سن التقاعد». ووفقاً للاستطلاع، يقول الناس: «دعونا نتوقف عن مساعدة الآخرين ولنساعد أنفسنا». وفي مناسبات سابقة عندما انخفض تأييد بوتين، أصبحت روسيا منخرطة في تدخلات أجنبية جديدة. ففي عام 2014، على سبيل المثال، بلغ تأييد الرئيس الروسي نحو 60%، ولكن بعد ضم القرم، في مارس من ذلك العام، ارتفعت النسبة إلى 80%، وشهدت زيادة كبيرة بعد التدخل السوري».
أما بولياكوفا، الخبيرة في الشؤون الروسية، فتقول: «لكن في الوقت الحالي، أعتقد أن الوضع مختلف»، وتوضح أنه «يتم استقبال بوتين في العواصم الأوروبية، ويريد الرئيس ترامب مقابلته. كان من المفروض أن تكون هذه الأشياء في مصلحة بوتين، لكنها ليست كذلك».
67 %
نسبة التأييد الشعبي لبوتين في يوليو الماضي، وهو أقل بكثير من نسبة تأييده البالغة 79% في مايو، و82% في أبريل.
أدّت محاولة واشنطن للحد من مشاركتها في سورية خلال حكم الرئيس باراك أوباما إلى منح بوتين فرصة لتعزيز مصالح روسيا في المنطقة.
يتم استقبال بوتين في العواصم الأوروبية، ويريد ترامب مقابلته. وكان من المفروض أن تكون هذه الأشياء في مصلحة الرئيس الروسي، لكنها ليست كذلك.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news