تنحي أنغيلا ميركل ضربة أخرى لاستقرار أوروبا
أرسلت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، موجات صادمة عبر السياسة والاقتصاد العالميين، قبل أيام، عندما أعلنت قرارها بالتنحي عن رئاسة حزبها، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وعلى الرغم من أنها أعلنت رغبتها في البقاء كمستشارة إلى غاية 2021، عندما تنتهي ولايتها، فإن هذه الخطوة تجعلها «بطة عرجاء» قد لا تستطيع البقاء لعامين آخرين. هذا يفتح ما يحتمل أن يكون معركة وحشية وإيديولوجية داخل ألمانيا، ويترك فجوة كبيرة في السياسة الأوروبية.
حتى من خلال المعايير المستقرة للسياسة الألمانية، تعتبر فترة ولاية ميركل لافتة للنظر؛ ترأست الحزب لمدة 18 عاماً وكانت تشغل المستشارة في 14 منها، وإذا تمكنت من إنهاء ولايتها الحالية، فسيتم ربطها بالمستشار الراحل هيلموت كول، الذي يعتبر الأب السياسي لميركل، بأنها أكملت أطول فترة خدمة بعد الحرب العالمية الثانية.
انحدار حزب ميركل، والتراجع الحاد في شعبية شركائه داخل الائتلاف، كان يتوقع أن يكون سبباً لسقوطها، منذ أشهر، ومع ذلك، كان توقيت إعلانها بمثابة مفاجأة، لقد تعرض الاتحاد الديمقراطي المسيحي وشركاؤه لضربة قاسية في الانتخابات الإقليمية الأخيرة، بما في ذلك تصويت الأسبوع الماضي في «هيس»، حيث فاز الاتحاد بنسبة 27.9% من الأصوات، بانخفاض 10 نقاط عن آخر انتخابات في عام 2013، ومع ذلك، في كلتا الحالتين كان أداء الحزب الحاكم أفضل بقليل مما كان متوقعاً وتمكن من التمسك بمناصب مهمة على مستوى الدولة، ويبقى الحزب الأكثر شعبية في ألمانيا بهامش كبير، ولا يوجد خلف واضح لميركل يمكن تقديمه حالياً.
ولعل هذا هو بالضبط السبب الذي جعل ميركل تختار هذه اللحظة، في محاولة للمغادرة وفقاً لشروطها الخاصة وسعياً منها لتشكيل المعركة من أجل قائد حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي القادم، وفي الساعات التي أعقبت إعلانها، أشار ثلاثة مرشحين إلى أنهم سيخوضون معركة المستشارية وهم أنجريت كرامب-كارينباور، التي يُنظر إليها على أنها تلميذة ميركل، واليميني يانس سبان، أكثر المنتقدين لسياسة ميركل في مجلس الوزراء الحالي، وفريدريك ميرز، الذي أجبرته ميركل على ترك قيادة الحزب، قبل أكثر من 10 سنوات.
وعلى الرغم من أن ألمانيا ستواجه تحديات اقتصادية وجيوسياسية رئيسة في السنوات المقبلة، يبدو أن اختيار خليفة ميركل قد يتحول، بدلاً من ذلك، إلى تقييم النخبة لتجربة ميركل، والطرق التي سعت بها لتغيير نظرة حزبها المحافظ لقضايا حساسة، بما في ذلك قضايا البيئة والهجرة واللاجئين.
إذا كانت هناك صراعات بين القوى المؤيدة والمعارضة لميركل، وإمكانية ظهور زعيم انتقالي، فإن ذلك قد يزيد من احتمال قيام ميركل بتمديد فترة ولايتها، ولكن من المحتمل، أيضاً، أن تتحول خسائر الحزب المستمرة للناخبين لمصلحة أحزاب اليمين المتطرف والخُضر، الذين يربحون المزيد من الشعبية في ألمانيا. القتال الداخلي حول القضايا الاجتماعية والثقافية وهو في الحقيقة معركة حول مفهوم «محافظ» في ألمانيا، تحت قيادة حزب شعاره الحالي هو ببساطة «داي ميت»، الذي يعني «في الوسط».
إن السؤال حول كيف يمكن استبدال ميركل في السياسة الأوروبية يبدو أكثر ضبابية الآن.
خلال العقدين الماضيين، حدّدت ميركل إمكانات الاتحاد الأوروبي، لقد نشأت المستشارة في ألمانيا الشرقية الشيوعية من قبل أب اختار أن يأخذ أسرته هناك للعمل بعد الحرب، ودرست العلوم، وليس السياسة، وبدت كأنها تتحقق من صحة جميع الخيارات التي اتخذها الغرب بعد الحرب الباردة. من الناحية السياسية، جمعت بين السياسات الاقتصادية المحافظة المتشددة والتشكك الشيوعي، مع دعم التكامل السياسي الأوروبي، وأوروبا المتنامية ثقافياً والمتنوعة.
وهذا الموقف، الذي قد يراه الأوروبيون ليبرالياً كلاسيكياً، يَعِد بتحول القارة إلى وضع فريد من نوعه بين القِوى العظمى، إذ يصبح متحداً سلمياً وأقل تسلحاً، ولكن بعد الأزمة الاقتصادية في عام 2008، وتجدد المواجهات مع روسيا، والتوترات التي تسببت فيها هجمات تنظيم «داعش» الإرهابي، وأزمة اللاجئين، بدأ هذا الوضع في الانحسار؛ وتساءل المزيد من المواطنين الأوروبيين عما إذا كانت رؤية ميركل لأوروبا أوسع عادت بالفائدة على بلدانهم.
تتحسس كل من ألمانيا وأوروبا، الآن، ما حل بهذه الرؤية. الأوروبيون، إلى جانب واشنطن، وبشكل غريب، حتى موسكو، أصبحوا معتادين للغاية على موقف ميركل الثابت، لكنهم شعروا بأن القدرة على التنبؤ بها باتت تتراجع الآن.
هناك الكثير من الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع النزعة القومية الشعوبية، والأسئلة حول الهوية والهجرة لا شك أنها محورية في أي تفسير شامل، وتمثل استجابة ميركل لأزمة اللاجئين في 2015 غرائزها السياسية الأكثر شجاعة، وكانت أفعالها بلا شك تُكلفها سياسياً، ولكن دور الأزمات المالية لا يمكن التقليل من شأنه في نمو الشعبوية اليمينية، وتتحمل ميركل، أكثر من أي سياسي أوروبي آخر، المسؤولية عن جعل الأزمة السيئة أسوأ، وكانت قيمها دائماً في المكان المناسب، لكن سياساتها الاقتصادية لم تكن دائماً كذلك.
وبينما كانت المستشارة ملتزمة باتحاد أوروبي أقوى، اتبعت سياسات «ألمانيا أولاً».، وكانت الاستجابات لأزمة منطقة اليورو مطابقة لتفضيلات ميركل للسياسة الليبرالية ولقيت صدى لدى قاعدتها المحلية، وكانت النتيجة سلسلة من عمليات إنقاذ متأخرة وضعت ثقة في غير محلها في التقشف المالي والإصلاح التنظيمي للتخفيف من الضغوط على اليونان والاقتصادات الأخرى المتعثرة. التقشف لم يعمل على النحو المنشود، والإصلاحات التنظيمية فشلت في جعل أي من الاقتصادات الأوروبية المريضة تبدو أشبه بألمانيا. وبالتالي، ليس من المستغرب أن تكون أوروبا هي المنطقة الوحيدة في العالم التي نمت أقل في فترة الركود العظيم مقارنة بما كانت عليه في فترة الكساد الكبير.
استجابة ميركل لأزمة اللاجئين في 2015 تمثل غرائزها السياسية الأكثرشجاعة، وقد كلفتها أفعالها ثمناً سياسياً كبيراً.