العراق يتفاوض مع روسيا حول «القمح»
يسعى العراق إلى إجراء مباحثات مع روسيا في ديسمبر المقبل، حول استيراد القمح الروسي، في خطوة تستهدف تنويع مصادر واردات القمح، بدلاً من الاعتماد بشكل شبه كلي على أنواع القمح الأميركي والكندي والأسترالي. وتأتي هذه الخطوة في ظل تراجع الإنتاج المحلي من القمح أخيراً، في ضوء شح مياه الأنهار والأمطار، في الوقت الذي تحاول الحكومة العراقية أيضاً توسيع نطاق الشراكة الاقتصادية مع روسيا في مجالات مختلفة، أبرزها الطاقة، وربما توفر هذه الخطوة للحكومة مساحة كبيرة للمناورة لاستيراد القمح من الأسواق العالمية بأسعار أكثر تنافسية.
فجوة متزايدة
اضطرت وزارة الزراعة العراقية في المواسم الزراعية الثلاث الماضية إلى تقليص المساحة المتاحة لزراعة محاصيل، مثل الأرز وغيره من المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه، بسبب موجات الجفاف، نتيجة انخفاض هطول الأمطار وتناقص تدفقات المياه في نهرى دجلة والفرات بسبب بناء السدود في كل من إيران وتركيا، ما أدى إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير في الفترة الماضية.
وبالنسبة لمحصول القمح، فقد فرض شح المياه كذلك ضغوطاً متزايدة على إنتاج المحصول أخيراً، في وقت يتوقع أن تتقلص المساحة المزروعة بالقمح بنصف مليون هكتار الموسم الحالي (2018/2019).
فضلاً عن ذلك، خلّف تنظيم «داعش» الإرهابي، رغم طرده من المحافظات الشمالية، آثاراً سلبية طويلة الأمد على القطاع الزراعي. ووفقاً لتقييم منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، تسبب التنظيم في تدمير ما بين 70و80% من الأراضي الصالحة للزراعة في محافظة صلاح الدين، وتسبب في تدمير الأراضي المخصصة لإنتاج القمح بنسبة 32% في المحافظة نفسها، ونحو 68% في محافظة نينوى.
وفي ضوء ذلك، تشير بعض التقديرات إلى أن إنتاج العراق من القمح سيتراجع بأكثر من الربع، أى أنه سيقل بكميات تصل إلى نحو 800 ألف طن عن مستوى الموسم الماضي، ليبلغ 3.2 ملايين طن في الموسم الحالي، وهو ما ينبغي تعويضه من خلال زيادة الواردات من الخارج.
إمكانات روسية
تعد روسيا إحدى القوى الرئيسة في سوق القمح العالمي، إذ تأتي ضمن أكبر خمس منتجين أو مصدرين للقمح على مستوى العالم مع الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا وأوكرانيا، وبإمكانها تلبية بعض احتياجات العراق من القمح في الأجل القصير، طالما أنها تستطيع التجاوب مع معايير الجودة العراقية.
ويتمتع القمح الروسي بجاذبية أسعاره بالنسبة للمستهلكين حول العالم، حيث تقل أسعاره بما يتجاوز 20 دولاراً للطن الواحد عن الأنواع العالمية الأخرى. وفي أكتوبر الماضي، على سبيل المثال، سجل الطن الواحد من القمح الروسي نحو 228 دولاراً (دون احتساب كلفة الشحن)، ويقل بذلك سبعة دولارات عن القمح الأميركي، ونحو 37 دولاراً عن القمح الكندي، وهما المصدران الأساسيان لواردات القمح العراقية.
لكن هذه الأسعار تتفاوت وفقاً لعوامل أخرى مثل جودة القمح ذاته وكلفة الشحن ومستويات العرض والطلب العالمي على المحصول. وإلى جانب ذلك، يعطي القرب الجغرافي لموانئ شحن القمح الروسي على البحر الأسود من منطقة الشرق الأوسط، ميزة أخرى لاستيراده من قبل دول المنطقة بما فيها العراق.
وكانت المزايا السابقة ضمن أسباب اتجاه العراق إلى إجراء مباحثات مع روسيا لاستيراد القمح الروسي، وهو ما أشار إليه وزير التجارة العراقي محمد هاشم العاني بقوله، في 14 نوفمبر الجاري، أنه سيتم إرسال وفد إلى روسيا في ديسمبر المقبل لتقييم جودة وملاءمة القمح الروسي للاستخدام العراقي. ويتزامن ذلك مع استعداد هيئة الرقابة الزراعية الروسية لتلبية احتياجات العراق من الحبوب.
وبخلاف الأسباب الفنية البحتة، يدرك العراق مدى أهمية تعزيز الشراكة مع روسيا في مختلف جوانبها، لما لها من مردود سياسي واقتصادي عليه، ففضلاً عن حجم استثمارات الشركات الروسية، مثل «غاز بروم نفط» و«لوك أويل»، في مجال الطاقة بالعراق، والبالغة نحو 10 مليارات دولار، والتي يتركز معظمها في إنتاج النفط، فقد أبدت الشركات الروسية أخيراً استعداداً غير مسبوق للمشاركة في التنقيب عن الغاز في الأراضي العراقية.
وقد اتفقت الدولتان على تعزيز مشاركة الشركات الروسية في إنتاج الغاز وتصديره في المستقبل، وذلك على هامش استقبال وزير المالية العراقي فؤاد حسين، نائب وزير الخارجية الروسي المبعوث الخاص للرئيس فلاديمير بوتين، ميخائيل بوغدانوف ، في بغداد يوم 21 نوفمبر الجاري. كما تبدي الشركات الروسية استعداداً غير مسبوق للمشاركة في إعادة إعمار العراق، خصوصاً في مشروعات البنية التحتية.
ولأسباب سياسية، تحاول الحكومة العراقية رفع مستوى التعاون مع روسيا خصوصاً مع تنامي دور الشركات الروسية في عمليات التنقيب واستكشاف وإنتاج النفط والغاز الطبيعي بإقليم كردستان، ويتمثل أبرزها في شركة «روسنفت»، التي وقعت في العامين الماضي والجاري، عقوداً مع إقليم كردستان، لاستثمار ما يصل إلى أربعة مليارات دولار في قطاع الطاقة، وهو ما يعتبره العراق غير قانوني في ظل عدم الحصول على موافقة الحكومة المركزية. ومن ثم يمثل توسيع نطاق التعاون بين البلدين فرصة للتنسيق بشأن استثماراتها بقطاع الطاقة في إقليم كردستان.
وعلى الجانب الآخر، فإن الوصول لاتفاق مع العراق بشأن توريد القمح سيمثل مكسباً تجارياً كبيراً لروسيا التي تسعى للحصول على حصة بسوق استهلاكية واسعة مثل العراق قد تتزايد وارداتها السنوية من القمح أكثر من القيمة البالغة حالياً 700 مليون دولار، ويأتي ذلك في وقت تراجع فيه حجم الصادرات الروسية للسوق العراقية في عام 2017 إلى 255.5 مليون دولار مقابل 916.8 مليون دولار في عام 2016.
مساحة للمناورة
يفرض توصل العراق إلى اتفاق مع روسيا لاستيراد القمح مكاسب عدة، أهمها منح العراق مساحة للمناورة حول أسعار توريد القمح من الأسواق العالمية المختلفة، خصوصاً في ظل صعوبات جذب شركات تجارة القمح العالمية للمناقصات التي تجريها شركة تجارة الحبوب العامة العراقية، وبما اضطر الحكومة للسماح للشركة، منذ مايو 2017، بشراء القمح والأرز بنظام صفقات التفاوض المباشرة إلى جانب المناقصات.
واللافت للانتباه في هذا السياق، أن العراق يستورد قسماً كبيراً من احتياجاته في ظل نظام الصفقات المباشرة، مثلما فعل في أغسطس من العام الجاري، عندما تعاقد مع شركة «كارجيل» الأميركية لشراء نحو 200 ألف طن من القمح الأميركي المنشأ ليتم تسليمه في غضون 75 يوماً، و100 ألف طن قمح من كندا تسلم خلال 105 أيام، على نحو قد يجعل الموردين يحددون أسعاراً غير تنافسية، أو فوق مستوى أسعار السوق بعلاوات سعرية كبيرة.
مورِّد آخر
يمكن القول إن دخول مُورِّد آخر إلى سوق القمح سيعطي الحكومة العراقية فرصة لتزويده بالقمح بأسعار أكثر تنافسية، كما سيجعله أكثر قدرة على مواجهة الظروف الطارئة التي يتعرض لها الإنتاج الزراعي بالسرعة وبالشكل المطلوبين. ورغم ذلك، تظل الجودة أحد الانتقادات العراقية الموجهة للقمح الروسي، نظراً لاحتوائه على نسبة عالية من الجلوتين الذي قد لا يتناسب مع إنتاج دقيق صالح لبرنامج دعم الغذاء العراقي.
- تقديرات تشير إلى أن إنتاج العراق من القمح
سيتراجع بأكثر من الربع، أى أنه سيقل بنحو 800 ألف
طن عن مستوى الموسم الماضي.
- بخلاف الأسباب الفنية البحتة، يدرك العراق مدى
أهمية تعزيز الشراكة مع روسيا في مختلف جوانبها،
لما لها من مردود سياسي واقتصادي عليه.